وما أكثر المرات التى رأيت فيها الباطل منتصرًا!!

أميمة كمال
أميمة كمال

آخر تحديث: الأربعاء 2 أبريل 2014 - 6:10 ص بتوقيت القاهرة

أعترف، ويعترينى شعور بالخجل، بأننى لو كنت قد استمعت قبل ثلاث سنوات لحديث يتعلق بإدخال الفحم كمصدر للطاقة فى مصانع الأسمنت فى مصر، لكنت قد أدرت ظهرى على الفور للمتحدث. أو كنت فى أفضل الأحوال تظاهرت بالاهتمام، دون أن أصغى كثيرا لما يقال، لأننى كنت أعتقد أن الأمر يحسمه المتخصصون فى أمور الصناعة والبيئة. فما الذى حدث لى؟ إنها ثورة يناير.

كيف أصبحت الآن لا أنام ولا أصحو إلا وأنا أتحدث عن الفحم. صار حديثا يوميا وشأنا خاصا يحتل مساحة لا بأس بها من برنامجى اليومى. أنا التى اعتدت أن أستنشق غبار التوك توك، ويزكم أنفى التراب الذى يخلفه ميكروباص يجرى على الأسفلت بسرعة جنونية، ويكتم أنفاسى العادم الأسود الذى يخرج من أتوبيسات النقل العام دون أن أستشعر خطرا. أصبحت الآن لا أحتمل فكرة أن أتعرض ويتعرض ملايين غيرى لخطر محتمل من خروج انبعاثات من مصنع أسمنت من جراء استخدام الفحم. حتى لو كان بعيدا بمئات الكيلوات من الأمتار فى الإسكندرية، أو قنا، أو بنى سويف، أو العريش. دون أن يكون لنا، نحن الشعب، رأى إجبارى وليس اختياريا فى استخدام الفحم من عدمه. فإذا كنا نقتسم الهواء الذى نحيا به، فلنحاسب كل من يلوثه، ونمنعه ولا نترك مصير هوائنا لهوى أصحاب المصانع أو حتى الحكومة.

•••

جلست أستمع إلى الدكتورة ليلى اسكندر وزيرة البيئة وهى تتحدث عن مستقبل هذا البلد، عندما نأخذ قرارا جماعيا شعبيا أننا نحبه، ونخشى عليه، ونريده مستقلا، حرا، متقدما، عادلا. هل تصدقون كيف تربط تلك السيدة بين قضية الفحم والعدل والاستقلال والتنمية. تقول وهى تزهو بما تقوله إننا يجب ألا نكرر ما فعلناه فى الماضى من الاعتماد على الأجانب فى توفير مصادر الطاقة طوال السنوات الماضية. دعونا لا نكرر ما فعلناه فى الماضى من عقد اتفاقيات لاستخراج البترول، أو لتصدير الغاز كان الفائز فيها هو الطرف الأجنبى. دون أن ننظر إلى الطاقة كأمر يتعلق بالأمن القومى. إن الاعتماد مرة أخرى على الفحم كمصدر للطاقة فى حين أن كل ما تملكه مصر من احتياطى للفحم لا يزيد على 27 مليون طن، وفى حين تتحكم روسيا وأمريكا والصين وحدها فى 558 مليار طن. يجعلنا مرة أخرى نقع فى قبضة يد آخرين يسلبوننا قرارنا المستقل فى التنمية.

هذه السيدة تتحدث متحدية كل الدعاوى التى تروجها شركات الأسمنت المدعومة من الحكومة ومن شركات الدعاية والعلاقات العامة من أن الدول المتقدمة ما زالت تعتمد على الفحم. فتقول إن السيناريوهات التى وضعتها الولايات المتحدة الأمريكية لخريطة الطاقة حتى عام 2040 تشير إلى أنها تقلل من الاعتماد على الفحم كمصدر للطاقة سنويا بحيث يتم الاستغناء عنه فى نهاية الخطة. بل حتى أن مزيج الطاقة الأوروبى أصبح يقلل الاعتماد على الفحم، و60% من الطاقة فى مصانع الأسمنت فى ألمانيا يعتمد على مخلفات القمامة.

ولأنها معنية بالأساس بالتنمية الشاملة ولا ترى جانبا واحدا من الصورة. فهى تلفت النظر لتأثير الانبعاثات المخيفة من استخدام الفحم التى ستدفع ثمنها الصادرات المصرية. التى قد تفاجئ بغلق الأسواق المتقدمة أمامها، لتجاوزها السقف المسموح به للانبعاثات طبقا لاتفاقيات المناخ. وهى أيضا تلفت النظر، لمن لا يلتفت داخل الحكومة، إلى أن تجاوز سقف الانبعاثات بعد استخدام الفحم سوف يؤثر تأثيرا مدمرا على السياحة. والذى يبدو أن أعضاء الحكومة الآخرين لا يرون أن هذا يعرض مصر لخطر أن تفقد ما تطالب به من تعويضات جراء ما سوف تتعرض له شواطئنا من التغيرات المناخية. وهذه التعويضات تصل إلى ما بين 100 إلى 500 مليار جنيه فى السنة.

ولم تقف جهودها وجهود الباحثين الذين تحرص طول الوقت على ترديد أسمائهم عند حد تحديد المخاطر ولكن سعوا نحو تقديم البدائل من استخدام المخلفات المنزلية والزراعية والصناعية، والطاقة الشمسية وطاقة الرياح وحتى استيراد الغاز. أما حديثها عما سيصيب صحة الملايين من المصريين خاصة الفقراء الذين لا يملكون ثمن العلاج من أمراض مثل السرطان والأمراض الصدرية فقد أسهبت فى الحديث عنه كثيرا. ولكننى تجاوزت الإشارة إليه لأنه يبدو لى دائما أن لغة المليارات هى ما يؤثر فى أهل الحكم والبيزنس بأكثر كثيرا مما يؤثر فيهم موضوع الصحة.

•••

مثلما ذهبت لأستمع للسيدة التى تتصدى وحدها داخل الحكومة لمنع دخول الفحم، ذهبت أيضا لأستمع للسيد منير فخرى عبد النور وزير الصناعة والتجارة أمام جمع من شباب الأعمال. فوجدته يخيرنا بين أمرين كلاهما أكثر مرارة من الآخر. ولم يترك لنا خيارا ثالثا. فهو يريد منا أن نختار بين تكلفة إدخال الفحم، وبين تكلفة البطالة التى قد تنجم عن انخفاض الاستثمارات بسبب نقص الطاقة. وتحدث كثيرا عن المفاهيم الخاطئة والسائدة عن العدالة الاجتماعية دون أن يحدثنا عن عدالة اقتطاع مليارات من الجنيهات من موازنة الدولة وتسربها فى صورة دعم للغاز وللكهرباء نجم عنها دخول ملايين لا بأس بها لجيوب أصحاب مصانع الأسمنت، ورؤساء تلك الشركات، وكبار المديرين والخبراء فيها. ولم يحدثنا عما ذهب إلى مساهمين أجانب فى فرنسا، والبرتغال، واليونان، والمكسيك فى الشركات المالكة لعدد من شركات الأسمنت التى اشترتها من الحكومات المصرية السابقة. وربما لو طالع الوزير ميزانية إحدى الشركات لاكتشف مثلا أن نصيب أتعاب الخبراء والمعونة الفنية الأجنبية ومجلس الإدارة فى عام واحد بلغ 25 مليون جنيه. بينما نصيب إجمالى العمال من الأرباح فى ذات الشركة لم يزد على 8 ملايين جنيه فى نفس العام.

ولم يخبرنا السيد الوزير عن رأيه فى العدالة الاجتماعية المطبقة فى حكومته عندما تحصل الشركات على الغاز حتى الآن بأسعار تتراوح بين 4 إلى 6 دولارات لكل مليون وحدة حرارية فى وقت يدور فيه متوسط الأسعار العالمية ما بين 13 إلى 16 دولارا. وهو ما جعل هذه الشركات تهدر فى استخدام الطاقة. وباعتراف أحد كبار خبراء الطاقة وصل الهدر إلى 20% سنويا.

•••

وقد يكون التدقيق فى ميزانيات بعض شركات الأسمنت عاملا إيجابيا يهدئ من روع السيد الوزير وتخوفه على أوضاع الشركات. بل وربما يجعله يتمهل قبل أن يعلن مجددا عن موعد لدخول الفحم مستبقا موافقة مجلس الوزراء. فعندما تحقق شركة مصر للأسمنت ــ قنا زيادة فى ربحيتها، ويصل الربح قبل الضرائب إلى 357 مليون جنيه فى ديسمبر الماضى مقابل 279 مليون جنيه فى العام السابق. وتزيد قيمة مبيعاتها بنسبة 28% عن العام السابق. فلا يكون هناك داع للتخوف ولا يستدعى الأمر تدخلا سريعا لإنقاذها. وعندما تزداد أرباح شركة السويس للأسمنت بعد الضرائب إلى 538 مليون جنيه العام الماضى بزيادة قدرها 14 مليون جنيه، بينما قطاع السياحة لا يستطيع الصمود على قدميه فلا داع للتسرع فى اتخاذ قرارات مصيرية تخص الطاقة قد تعيق القطاعات الأخرى.

وعندما لا تشذ شركة أسمنت حلوان عن القاعدة وتحقق هى الأخرى صافى ربح قدره 232 مليون جنيه فى العام الماضى. وكذلك شركة إسكندرية بورتلاند التى وصلت أرباحها إلى 229 مليون جنيه فى نفس العام. فلا يبدو أن التعجل فى إصدار قرار باستخدام الفحم الذى يدفع المصريون ثمنا باهظا له، ما هو إلا مزيد من الانحياز للرابحين، وتحيز فى غير صالح الخاسرين.

وفى حقيقة الأمر عندما تكون موقنا بأنك تصطف فى جانب الحق، فلا تجهد نفسك بالبحث عن مصطفين فهم سوف يتسابقون إليك. إنه اليقين بالحق، وليس ادعاء الحق، هو ما يجعل الدكتورة ليلى اسكندر تكسب أرضا كل يوم، بينما يخسر الآخرون، حتى لو نجحوا فى كسب قضيتهم وأدخلوا الفحم غصبا. فما أكثر المرات التى رأيت فيها الباطل منتصرا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved