تلك القمة

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 2 أبريل 2015 - 9:45 ص بتوقيت القاهرة

لن يجد المؤرخون صعوبة فى تقييم أعمال ونتائج مؤتمر القمة العربية الذى انعقد فى منتجع شرم الشيخ المصرى. سبقته أحلام وآمال استغرق فيها المتفائلون العرب وأنصار التكامل العربى كعادتهم قبل انعقاد كل قمة عربية، وأعقبته خيبات أمل هؤلاء وآخرين. أما الآخرون فهم ملايين العرب الذين أحبطتهم ضراوة فصائل وميليشيات وجيوش وشرطة الثورات المضادة لثورة الربيع العربى، هؤلاء الذين بحثوا فى عناوين وثنايا قرارات القمة وإعلانها النهائى عن قضاياهم وانشغالاتهم فلم يجدوها.

•••

سمحت ظروف عملى خلال مرحلة مبكرة من حياتى بأن أكون قريبا جدا من مؤتمرات القمة العربية. أعرف الكثير عن تأثير الأجواء التى تنعقد فيها هذه المؤتمرات على أعمالها، وأعرف الكثير أيضا عن الإجراءات والضغوط التى تسبق الانعقاد. أعرف مثلا، وكثيرا أيضا، عن ضآلة الاهتمام الذى يوليه معظم القادة العرب للمسائل المعروضة عليهم فى جدول الأعمال. خرجت من هذه التجربة باقتناعات أثبتت نتائج القمم اللاحقة صحة أكثرها، ومازلت، رغم مضى السنين وتدهور أوضاع الأمة وتكالب ذئاب البشر على نهب ثرواتها المهدرة واغتيال قيمها وأحلامها، ــ أسعى للاقتراب من كل انعقاد للقمة، عسانى أجد فى اتصالات وإجراءات التحضير لها، أو فى نوعية المشاركة ومستواها أو فيما يتسرب من داخل القاعة والكواليس والغرف المغلقة، ما يضيف لاقتناعاتى اقتناعات جديدة أو يزيدنى ثقة فيها أو يدفعنى لتحسينها.

وبالفعل اقتربت من هذه القمة الأخيرة بضغط الحوافز نفسها. وكالعادة تمنيت أن تكون مختلفة عن سابقاتها. وكالعادة أيضا قاومت إغراء الحملات الإعلامية العربية عامة، والمصرية خاصة، التى تسبق انعقاد كل قمة، ففى كثير من الحالات كانت الحملات تهدف إلى صنع رأى عام لصالح أو ضد دولة أو قضية بعينها، وفى حالة هذه القمة الأخيرة، كان هدف إحدى الحملات تكوين رأى عام كاره لأداء الأمانة العامة للجامعة، ورأى عام آخر كاره لدولة معينة من دول الجوار، ولم تكن إسرائيل الدولة التى وقع عليها اختيار تركيز الغضب العربى، إنما وقع اختيار عدد من الدول على إيران. اقتربت ولاحظت وسألت وتابعت وخرجت بانطباعات، كل انطباع منها يخضع الآن للتدقيق والتحقيق، قبل أن ينضم إلى قائمة اقتناعات تشكلت عبر سنوات تجربة طويلة، أو قبل أن يسقط كلية من رصيد خبراتى وتجاربى.

•••

كان عنوان أول انطباعاتى أن القمة العربية بالمعنى المأمول لدى الغالبية العظمى من شعوب العرب لم تنعقد، إنما انعقدت قمة «شبه» خليجية موسعة، بمعنى أن المؤتمر اتخذ صفة القمة الاستثنائية أى غير العادية باعتبار اهتمامها الشديد بموضوع واحد يهم أساسا دول الخليج وليس جميعها على كل حال بدليل عزوف دولة عمان، وباعتبار إهمالها الشديد جميع الموضوعات الأخرى، أو فى أحسن الأحوال لم تهتم إلا سطحيا بقضايا عربية أخرى. لم تناقش القمة بالاهتمام الواجب الدعوة إلى تشكيل قوة عسكرية عربية لمقاومة الإرهاب ولم تناقش بالتفصيل المطلوب والمتوقع منها المسائل المتعلقة بتطوير ميثاق جامعة الدول العربية، ولم تكن مستعدة لاتخاذ قرارات فى شأن مشاريع تنمية عربية شاملة أو تطوير العمل العربى الاقتصادى المشترك. وبالتأكيد اختتمت القمة العربية السادسة والعشرين أعمالها وغادر الملوك والرؤساء قبل أن ينتبهوا إلى أن قضية فلسطين بتطوراتها المذهلة دوليا وداخليا لم تحصل على حقها من الدرس والنصح والالتزام. بهذا الموقف من قضية فلسطين تكون قمة شرم الشيخ قد فتحت الطريق أمام إعلان نهاية أو صياغة خاتمة رواية :«فلسطين قضية العرب الأولى».

سمعت تعليقا لأحد المحللين الأجانب المهتمين بقضايا الإقليم وعلاقته بالعالم الخارجى، يعرب الرجل فى تعليقه دهشته من أن اجتماعا على هذا المستوى يعقد فى أى مكان فى العالم، لا يجدد من خلال النقاش أو القرارات أو الإعلان النهائى أمل شعوب الإقليم فى الديمقراطية ولا يؤكد التزام المؤتمرين بالقيم العالمية، وبخاصة قيم حقوق الإنسان، وفى حالتنا لم تحاول القمة الدفاع عن تهم انتشار الفساد وتحكم الاستبداد والتطرف فى التعامل مع قضايا الحريات.

•••

ثانيا: بأى حال من الأحوال لا يمكن القول بأن الأمة العربية كانت ممثلة على الوجه الأمثل أو المناسب فى هذا المؤتمر، وبأى حال من الأحوال سيكون من الصعوبة بمكان الزعم بأن البيان الصادر عن القمة السادسة والعشرين يعبر عن حقيقة مشاعر وأهداف جميع شعوب العرب، دول حضرت وشاركت وأيدت باقتناع، ودول أكثر عددا حضرت وشاركت وأيدت بحماسة فاترة أو بعبارات مائعة بما يحمل معنى التأييد بدون اقتناع أو للمسايرة أو بأمل فى ثمن. ودول حضر من يمثلها قانونيا ولم يكن حسب الواقع على أرض بلاده يمثلها واقعيا. ومع ذلك يجب أن نعترف أن قمما عربية كثيرة مرت بأوضاع لا تختلف كثيرا عن وضع القمة السادسة والعشرين. فى الوقت نفسه، يجب أن نعترف أيضا بأن ما يميز هذه القمة الأخيرة عن سابقاتها أنها القمة الوحيدة التى يكتشف اعضاؤها قبل وصولهم بساعات قليلة أنها «قمة حرب». بل أيضا بمعنى أنها ستكون أول قمة عربية تخرج بقرارات شن حرب أو الاستعداد لحرب. أغلب الظن أن المؤرخين سوف يكتبون عنها أنها كانت «قمة حرب استثنائية»، إذ كان من أهدافها المعلنة فى اللحظات الأخيرة السابقة على الالتئام اقتراح سعودى بمباركة حرب شنت قبل ساعات معدودة ضد قوى متمردة فى اليمن. تصادف أن مصر كانت قد تقدمت قبل أسابيع قليلة باقتراح إعلان العزم على إنشاء قوة عسكرية عربية مشتركة لمكافحة الإرهاب.

لا يحتاج الأمر إلى خبرة طويلة فى العمل الدولى ليتوقع أهل التحليل أن هذا النقص فى الدعم الفعال والكامل لقرار الحرب فى اليمن وقرار تشكيل قوة عسكرية عربية سوف يؤدى إلى مشكلات شديدة التعقيد حول شرعية التدخل، مشكلات من نوع المشكلات التى واجهتها الحرب ضد العراق والحرب العالمية الأولى ضد الإرهاب، وكانتا فى النهاية من أهم أسباب تراجع المكانة الدولية للولايات المتحدة. إن كثيرا من مشاكلنا العربية نشأت وتعقدت بسبب ميل الحكام العرب إلى «تعريب» طموحاتهم الشخصية أو سياساتهم الإقليمية والدولية، بمعنى الادعاء حقا او مبالغة او توهما أن هذه الطموحات والسياسات تخدم أهداف الأمة بأسرها وتحظى بتأييدها. تعودنا على امتداد عمر النظام العربى على زعيم أو آخر يتحدث باسم كل العرب، وزعيم أو آخر يدخل فى حرب باسم كل العرب، وزعيم أو آخر يفاوض باسم كل العرب. كثيرا ما كان التعريب فى عديد الحالات باهظ الثمن، وكثيرا ما كانت خيبات الأمل مؤلمة.

ها نحن بكل الأسى والأسف نرى أنه بينما تعرض قضية فلسطين«..قضية كل العرب» على القمة السادسة والعشرين كقضية «بعض» العرب، وليس كقضية كل العرب، نرى فى الوقت نفسه قضية بشار الأسد تعرض وتناقش «كقضية كل العرب»، وهى بالتأكيد وبواقع الحال والتطورات الإقليمية والدولية ليست سوى قضية «بعض» العرب. بل لعلنا نتوقف أمام هذا المثال الذى يحمل تناقضا مثيرا، إذ تبدو القمة العربية، أى «كل العرب»، داعمة لثورة الربيع فى سوريا، رغم أن نفس القمة العربية، أى نفس «كل» العرب، تعمل بكل طاقتها لإجهاض الربيع العربى فى أى مكان أزهر فيه وأينع ووأده إن أمكن فى أى مكان تعثر فيه.

•••

ثالثا: بعد ما سمعناه من خطب وبيانات فى تلك القمة وما قرأناه من تعليقات لا سبيل لإنكار أن العرب منقسمون حول الإرهاب، مفهوما وممارسات ومجالات ومنظمات وأفرادا، بل هم يختلفون أيضا حول أسباب نشأته وأساليب مواجهته. ميوعة المفهوم سمحت فى الماضى بالتساهل مع الانتشار الواسع لأفكار متطرفة فى تفسير الدين، وتسمح الآن بالتوسع الهائل فى أساليب ومجالات مكافحته. لا تخفى حقيقة أن هذه الميوعة كانت، ولاتزال، السبب فى خلافات عميقة بين الدول العربية، وستظل السبب الرئيسى وراء الصعوبات التى ستواجه اقتراح تشكيل قوة عسكرية عربية موحدة أو شبه موحدة أو حتى غير موحدة لمكافحة «عدو» غير محدد المعالم وغير واضحة مواصفاته وغير مؤكدة تماما مصادر تمويله وتسليمه. أعتقد أيضا، من واقع قراءة مستمرة للتاريخ السياسى العربى، أنه مهما تقاربت أهداف الأنظمة الحاكمة العربية، ومهما تشابهت أو تقاربت الرؤى، لن يحدث فى أى وقت أن تجتمع آراء الدول العربية جمعاء حول تعريف واحد وواضح لمعنى التمرد والثورة ضد نظام حكم فى دولة عربية. بمعنى آخر لن يتوحد العرب على قرار بالتدخل فى دولة عربية أو أخرى لاستعادة الاستقرار والأمن والقضاء على ثورة أو تمرد ناشب فيها. سوف يستمر العمل بنظام إقامة تحالف للراغبين فقط، أو بالتدخل أولا على أمل كسب الشرعية الإقليمية له فيما بعد، وكلها أثبتت أنها إجراءات وممارسات لا تتسامح معها الشرعية الدولية ببساطة. وبالتالى يصبح ثمنها باهظا، وبخاصة إذا تسببت فى إقامة تحالفات عسكرية مقابلة من الرافضين وغير الراغبين.

•••

انفض المؤتمر وعادت الوفود إلى بلادها فى الخارج أو إلى مكاتبها فبى الداخل تاركة خلفها أسئلة لم تجد إجابتها عند القادة العرب، ومخلفة توقعات بعضها معقد وبعضها مغلف بغموض متعمد أو مصطنع. هناك توقع بأن تكون مسيرة تنفيذ اقتراح القوة العربية المشتركة مسيرة معقدة، وبخاصة إذا امتدت فترة عمل «القوة الدولية» التى تقودها المملكة السعودية. هناك توقع آخر بأن تتصاعد الحملة الإعلامية ضد الجامعة العربية، كمنظمة إقليمية قومية. سيبقى هدف الحملة المتوارى، كما يعرف الكثيرون ولا يعترفون، هو التحكم فى حجم مصر ووزنها، وفى نهضتها وكبواتها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved