القضاة ونظام الحكم فى مصر

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الأحد 2 أبريل 2017 - 9:30 م بتوقيت القاهرة

مع أننا فخورون بأننا أقدم أمة فى العالم، وأن حضارتنا ذات تاريخ طويل، إلا أننا لا نتعلم من التاريخ دروسه بالغة الوضوح، ولذلك فنحن، إذ نتجاهل الماضى، نعود لنكرر نفس الأخطاء، وكأننا بلغنا من الشطارة والفهلوة بحيث نستطيع تجنب النتائج الكارثية التى ترتبت على نفس الممارسات فى السابق. وهذا هو ملخص سريع لتاريخ المواجهات بين القضاء وكل عهود الحكم فى مصر، منذ ثورة 23 يوليو 1952. كل المواجهات السابقة انتهت بهزيمة من حاولوا إخضاع القضاء لسلطة الحكم. وسوف يذكر هذا المقال بالمحطات الرئيسية فى هذه المواجهة قبل أن يستعرض بعض الجوانب الداعية للانزعاج فى الأزمة الراهنة، التى يفضل كثيرون أن يصوروها على أنها مواجهة بين مجلس النواب والهيئات القضائية، ويحتكمون إلى رئيس الجمهورية للفصل فى هذا النزاع كما لو أن السلطة التنفيذية، أو بعض مؤسساتها غائبة تماما عن المبادرة بطرح القانون أو طرح المشروع البديل بخفض سن التقاعد، وهما لقيا الرفض من جانب المجالس الخاصة فى هذه الهيئات.

محطات على طريق المواجهة
كان الصراع الأول هو بين مجموعة عبدالناصر فى مجلس قيادة الثورة وبين مجلس الدولة الذى كان يترأسه فقيه القانون المدنى فى مصر المرحوم الدكتور عبدالرزاق السنهورى، وذلك أثناء أزمة فبراير ــ مارس 1954، والتى ساند فيها المستشار السنهورى الدعوة للعودة إلى نظام مدنى ديمقراطى، والتى تزعمها فى ذلك الوقت اللواء محمد نجيب أول رئيس جمهورية لمصر. وشهدت المظاهرات المؤيدة لعبدالناصر اقتحام مجلس الدولة وضرب المستشار السنهورى، ثم إعادة تشكيل مجلس الدولة.
نفس المواجهة تكررت بعد ذلك بخمس عشرة سنة فيما عرف بمذبحة القضاء بعد اجتماع فى نادى القضاة رفض محاولات الاتحاد الاشتراكى العربى التنظيم السياسى الوحيد فى البلاد منذ سنة 1962 وحتى سنة 1977 تسييس القضاء. وكان الاتحاد الاشتراكى قد دفع بنشطائه لخوض انتخابات النادى ففشلوا فيها جميعا، وفازت القائمة المضادة التى تزعمها خالد الذكر المستشار ممتاز نصار، وكانت النتيجة هى إعادة عبدالناصر تشكيل كل الهيئات القضائية، وذلك بإسقاط كل من لعبوا دورا أساسيا فى هذه المواجهة من سلك القضاء، أو نقلهم لوظائف أخرى. رحل عبدالناصر بعد ذلك بسنة، ثم سقطت هذه القرارات بحكم محكمة النقض فى سنة 1972، وعاد القضاة المفصولون إلى مناصبهم، وأصبحوا موضع التقدير والإجلال فى المجتمع، ومنهم المستشار يحيى الرفاعى إلى جانب المستشار نصار رحمهما الله.
لم يتعظ الرئيس السادات من خطأ عبدالناصر وإن كان قد حاول فى بداية حكمه الاستفادة منه بالتقرب للقضاء، ولكنه سعى إلى تقليص سلطة القضاء فى المنازعات السياسية، والتى كان القضاء يبرئ فيها خصوم السادات من الكتاب والصحفيين على اعتبار أنهم كانوا يزاولون حقهم الدستورى فى حرية التعبير، فابتدع جريمة جديدة تسمى الخروج على قيم المجتمع يحال المتهمون بها إلى نوع جديد من المحاكم سمى بمحكمة القيم، التى تفرض على من يحال إليها عقوبة الفصل من الوظائف التى تتيح لمن يشغلها مثل الكتاب والصحفيين وأساتذة الجامعات التأثير على الرأى العام، أو تحدد إقامته فى منزله. وتشاء الأقدار أن يكون أول من أحيل إليها بعد اغتيال السادات شقيقه نفسه عصمت السادات الذى أثرى ثراء فاحشا فى عهد أخيه، ولم يكن يملك قبل تولى السادات السلطة ما يمكنه من كسب ثروة قدرت فى سنة 1982 بحوالى مائة وخمسة وعشرين مليون جنيه.
كما شاء الرئيس مبارك أن يعاقب القضاة الذين فضحوا التزوير فى الانتخابات النيابية فى دمنهور والزيتون وذلك لحساب مرشحين قريبين منه، ومنهم رئيس الديوان الرئاسى ذاته، فأحيل اثنان منهم للتحقيق أمام مجلس تأديبى وهما المستشار هشام البسطويسى، والمستشار أحمد مكى، فاعتصم القضاة فى ناديهم، ورفعوا مطالب باستقلال القضاء. طبقت العقوبة على القاضيين الجليلين، ولكن مبارك نفسه أطيح به فى ثورة يناير التى اندلعت سخطا على الفساد فى عهده والذى تمثل فضلا عن تزوير الانتخابات فى الزواج الوثيق بين السلطة والثروة، وكان ابناه أكبر مثل على ذلك.
وجاء الإخوان المسلمون إلى السلطة بعد ثورة يناير، ولم يغفروا للقضاة، وخصوصا قضاة المحكمة الدستورية العليا حكمهم ببطلان قانون انتخابات مجلس الشعب التى فازوا فيها بقرابة نصف عدد المقاعد، وامتلكوا فيه أغلبية كاسحة بتحالفهم مع قوى سياسية أخرى، إسلامية ومدنية، ولذلك عدل مجلس الشورى قانون المحكمة الدستورية ليقلل من عدد قضاتها ويتخلص من بعضهم، وخصوصا المستشارة تهانى الجبالى التى كانت تكن العداء للإخوان، وسعى الإخوان من خلال أغلبيتهم فى ذلك المجلس إلى التخلص من كبار القضاة تحت دعوى ضرورة خفض سن التقاعد للقضاة، وهو ما لم ينجح فيه رئيسهم مرسى ربما لقصر مدة رئاسته التى لم تتجاوز عاما واحدا سقط هو بعده أمام ثورة شعبية ساندها الجيش.
وتعجبوا معى أعزائى القراء أن تقليص استقلال القضاء الذى كان يتطلع إليه مرسى هو ما يحاول من يملكون الأغلبية العددية فى مجلس النواب التلويح به فى الوقت الحاضر، بعد أن نجح النائب أحمد حلمى الشريف من الكتلة المعروفة باسم «فى دعم مصر» فى تمرير تعديلات لهذا الغرض فى قوانين الهيئات القضائية الأربع من خلال اللجنة التشريعية، وحصل بعدها على موافقة الجلسة العامة لمجلس النواب، والتى لم يجر فيها عد الأصوات، لأن رئيس المجلس اكتفى برفع الأيدى كأسلوبه المفضل فى التصويت على القرارات. التعديلات التى وافق عليها مجلس النواب بسيطة فى صياغتها، ومثيرة لأشد القلق فى مضمونها، فهى تجعل اختيار رؤساء الهيئات القضائية وقفا على موافقة رئيس الدولة، فبدلا من أن تؤول رئاسة هذه الهيئات للأقدم سنا بحسب تقاليدها العتيدة، تقدم كل من هذه الهيئات لرئيس الدولة ثلاثة أسماء يختار هو واحد منهم لرئاستها. وهذا يعنى أن شرط رئاسة أى من هذه الهيئات وهى محكمة النقض، ومجلس الدولة والنيابة الإدارية وقضاء الدولة، سوف يصبح هو رضاء رئيس الدولة عنه، وليس رضاء مرءوسيه. فما الذى يثير القلق فى هذه التعديلات، والتى لم ينبرِ أحد من كتاب الرأى فى كل صحفنا للدفاع عنها. كانت هناك مقالات ناقدة فى المصرى اليوم والشروق، ومقال وحيد فى الأهرام حتى يوم السبت الماضى. وبعضها من كتاب يحسبون من أشد المؤيدين للرئيس السيسى.

مغزى التعديلات:
القضية الأولى فى هذه التعديلات هى ما أشارت له الفقرة الافتتاحية فى هذا المقال، وهى تحديدا عدم التعلم من دروس الماضى. كل الإجراءات التى اتخذتها نظم الحكم السابقة انتقاما من القضاء جرى العدول عنها بعد حين، وبعد رحيل من كانوا الآمرين بها. وحتى أنصار بعض هؤلاء الرؤساء مثل الناصريين لا يسعهم إلا أن يعترفوا أن تلك كانت من سقطات الرئيس الذى أحبوه. ولماذا نعود إلى نفس الأفكار التى بددت شرعية مرسى ومصداقيته تحت رئاسة السيسى؟ هل ما كان يعتبر إساءة استخدام للسلطة على عهد مرسى يصبح حلالا تحت رئاسة السيسى.
والقضية الثانية هى الادعاء بأن مجلس النواب فى إقدامه على هذه التعديلات إنما يمارس صلاحياته بموجب الدستور. دعك جانبا من موقف رئيس المجلس تجاه من يخالفونه فى الرأى من النواب، أو عزوفه عن تطبيق حكم قضائى بشأن انتخاب الدكتور عمرو الشوبكى نائبا، وسكوته حتى عن شرح أسباب هذا الموقف أمام الرأى العام، ومن المؤكد أن العزوف عن تطبيق الأحكام القضائية هو مخالفة لنص المادة 100 من الدستور. ولكن مجلس النواب لا يجب أن يمارس صلاحياته بالخروج على مبدأ أساسى فى الدستور، وهو الفصل بين السلطات ــ المادة 5ــ. ولاشك أن جعل رئيس السلطة التنفيذية مصدر القرار فيمن يتولى رئاسة الهيئات القضائية هو عصف بهذا المبدأ.
القضية الثالثة هى مفهوم القانون لدى من يدافعون عن هذه التعديلات. ليس أى نص يخرج عن سلطة التشريع هو قانون بالمعنى الصحيح لهذا المفهوم. القانون هو قاعدة عامة مجردة تصدر تحقيقا لمصلحة اجتماعية، وليس نصا تستدعيه ظروف وقتية تتعلق بمزاج من يتولى سلطة الحكم ورغبته فى إقصاء من لا يروقون له لهوى ذاتى وليس لتقصير فى أداء مهام وظيفتهم.
القضية الرابعة هى السياق العام لهذه التطورات التشريعية التى تنتهى بتركيز هائل للسلطة فى يد من يحتل قمة الحكم. أعجب عندما أقرأ فى الصحف عن قرارات لرئيس الجمهورية بتخصيص مساحة من الأراضى للمصلحة العامة فى إحدى قرى الصعيد. ألا يملك المحافظ أو الوزير المختص أو حتى رئيس الوزراء اتخاذ مثل هذا القرار؟. رئيس الدولة هو الذى يعين رؤساء الجامعات الحكومية. وقد حدث فى جامعة طنطا أن الرئيس رفض كل الترشيحات التى جاءته من اللجنة المختصة فى تلك الجامعة. أليس أساتذة الجامعات مؤهلين لممارسة مهمة اختيار من يترأسونهم حتى بعد استيفائهم لكل الشروط المنصوص عليها فى قانون الجامعات والذى ألغى أسلوب الانتخابات فى اختيار كل القيادات الجامعية. بل إن قرار تعيين عمداء الكليات يصدر أيضا من الرئيس. ولك أن تتصور أن الرئيس يعرف الأوضاع فى مئات الكليات التى تزخر بها الجامعات الحكومية. هذا التركيز الهائل للسلطات هو ضد كل مبادئ الكفاءة فى الإدارة، ودعك جانبا أنه ضد روح الديمقراطية.
وأخيرا أتمنى أن يكون لنا فى تاريخنا بعض العظة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved