قبل رفع فاتورة الكهرباء

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 2 أبريل 2018 - 10:40 م بتوقيت القاهرة

نموذج التوازن العام هو إحدى أهم أدوات الباحث الاقتصادى للتنبؤ بأثر التغير فى أحد مدخلات أو مخرجات الناتج الإجمالى على سائر المتغيرات. تخيل مثلا أن سعر صرف الدولار الأمريكى مقابل الجنيه المصرى قد تغير بمقدار قرش واحد، هذا القرش من شأنه أن يؤثر على إيرادات السياحة وقناة السويس وتحويلات العاملين، ومن شأنه أن يؤثر على الناتج الصناعى والزراعى والخدمى.. إلى غير ذلك من عناصر مهمة تجمعها مصفوفة الحسابات القومية للدولة.

أية زيادة فى أسعار الكهرباء يجب أن تدرس فى هذا السياق أيضا، وليس على مستوى فاتورة دعم الطاقة ومصروفات الحكومة. هنا يأتى الدور المهم لوزارة التخطيط كى تستخدم أدوات التحليل والتنبؤ التى تملكها للتعرف على الأثر الكلى لسياسات تسعير الطاقة على مختلف قطاعات الاقتصاد. تقدير حجم العائد مقابل الضرر المتوقع لرفع فاتورة الكهرباء بنسبة 20% أو 40% يجب أن يتم دراسته بعناية خارج وزارة أو شركة. هذا التقدير يجب أن يتم على مستوى الاقتصاد ككل حتى يتسنى معرفة صافى أثر رفع الأسعار على الاقتصاد ككل. ماذا لو كان الخفض فى مصروفات الحكومة لا يعوضه الضرر الذى يلحق بقطاع مهم مثل قطاع الصناعات كثيفة استهلاك الكهرباء والمخصص إنتاجها للتصدير والتى تملك الدولة الكثير من شركاتها ملكية خاصة؟!

الصناعات كثيفة استهلاك الطاقة وخاصة كثيفة استهلاك الكهرباء تتمتع فى مختلف دول العالم بإعفاءات وامتيازات خاصة، حتى لا تفقد تنافسيتها فى الأسواق العالمية. المنتجات التى يتم تسعيرها فى بورصات المعادن لا تملك مرونة سعرية كافية، تسمح لها بنقل عبء الزيادة فى فاتورة الكهرباء على المستهلك النهائى، وبالتالى تتحول تلك الزيادة فى تكاليف الإنتاج إلى تراجع فى الأرباح، وربما تتحقق معها خسائر تتسبب فى خروج الشركة من الأسواق.

***

صناعات معدنية مهمة واستراتيجية مثل صناعات الألومنيوم والفيروسيليكون (السبائك الحديدية) والنحاس والحديد (القائم على تكنولوجيا أفران الكهرباء وليس الأفران العالية) تقوم على توافر مصادر الطاقة الرخيصة. نشأة صناعة الألومنيوم والسبائك الحديدية فى صعيد مصر مثال جيد على ذلك. نشأت هاتان الصناعتان فى نجع حمادى وإدفو (على الترتيب) للاستفادة من فائض الكهرباء المنتجة من السد العالى، وهى كهرباء تولد من المساقط المائية (طاقة كهرومائية) ومن ثم فقد ترتفع تكاليف توليدها الاستثمارية، لكن التكاليف التشغيلية منخفضة، وهو ما يتحقق معه ميزة تنافسية لهاتين الصناعتين ومنتجاتهما فى الأسواق العالمية والمحلية.

سياسة تسعير الكهرباء فى ألمانيا ــ على سبيل المثال ــ تمنح الشركات التى تستهلك ما يزيد على جيجا وات/ ساعة خصما يصل إلى 85% فى كل استهلاك إضافى، كما تضع سقفا على نسبة فاتورة الكهرباء إلى القيمة المضافة التى تخلقها تلك الشركات، خاصة التى تخصص إنتاجها للتصدير، وتلك التى توفر العديد من فرص العمل، والتى توفر ذاتيا جانبا من احتياجاتها من مصادر الطاقة. بلغت نسبة الحد الأقصى لتكلفة الكهرباء القيمة المضافة التى تخلقها الشركات كثيفة استهلاك الطاقة فى ألمانيا 16% فى عام 2015.
وهناك دراسات حاولت الوقوف على أثر إلغاء امتيازات الكهرباء الممنوحة للشركات كثيفة استهلاك الطاقة فى بعض دول الاتحاد الأوروبى، وكانت النتيجة على مستوى الشركة والصناعة شديدة السلبية، كما كانت النتائج مخيفة على مستوى الاقتصاد الكلى.

***

فى مقال لى نشر بجريدة الشروق الغراء فى يوليو 2017 تحت عنوان «الكهرباء تضرب من جديد» كتبت تلك السطور فى محاولة لتفنيد وجهة النظر التى ترى أن دعم الطاقة هو مصدر التشوه الوحيد فى أسعار الكهرباء:

«بداية التشوهات السعرية لا يخلقها الدعم الحكومى للأسعار وحسب، بل يخلقه أيضا وبدرجة أكبر حالة الاحتكار الحكومى والممارسات الاحتكارية للشركة القابضة للكهرباء. المنافسة تعنى توافر بدائل وحلول لإنتاج الطاقة، وتعنى تكلفة أقل على المستهلك النهائى، وجودة أكبر فى الإنتاج. المال الخاص متى سمح له بالمنافسة فى هذا المضمار دون قيود كالتى رأينا تأثيرها السلبى على شركات وطنية لإنتاج الطاقة الشمسية، هذا المال الخاص يحرص أصحابه عليه أكثر كثيرا من حرص الموظف العام على مال الشعب، وهو ما يعنى مزيدا من الوفر والكفاءة الإنتاجية والسعرية. كذلك لا يمكننا أن نغفل نقص الكفاءة فى إدارة المرافق الحيوية، والكثير من الهدر والفاقد فى عمليات الإنتاج والصيانة والتوزيع.. وهو ما ينعكس بالضرورة على تكلفة الكيلووات من الكهرباء التى يحصل عليها المستهلك. لا أحد ينكر أن الحكومة تتحمل قدرا كبيرا من التكلفة بدعم إنتاج وتوزيع الكهرباء، لكننا لا نجادل فى مقدار هذا الدعم بقدر ما يجب أن يكون مدى الجدل هو كفاءة الإنتاج والتوزيع، ومن ثم مدى تعبير التكلفة عن النفقات الضرورية التى يحصل عليها عناصر الإنتاج».
وكتبت أيضا فى ذات المقال: «بالبحث فى الأسعار العالمية وجدت أن متوسط سعر الكيلووات فى الدول منخفضة الدخل ومنخفضة أسعار الكهرباء يتراوح (فى إجماليه) بين 2 سنت أمريكى إلى 8 سنتات، علما بأن سعر الكيلووات فى أعلى شريحة فى مصر يصل إلى 7.5 سنت أمريكى تقريبا دون إضافة الرسوم، فهل هذا يضعنا فى مرتبة معقولة ضمن دول المقارنة؟ بالطبع لا، لأن المتوسطات العالمية المذكورة شاملة لكل الرسوم والضرائب، كما أننا عادة ما نغفل تماثل القوى الشرائية التى تغير تماما من الأسعار السائدة. فإذا أخذنا تماثل القوى الشرائية فى الحسبان، ترتفع تكلفة الكيلووات للمستهلك فى الهند من أدنى المستويات إلى ما يقترب من الأسعار فى أكثر الدول ارتفاعا فى أسعار الكهرباء مثل إيطاليا، كذلك الحال بالنسبة لمصر.

إن كنت غير مختص وتريد أن تعرف كيف تؤثر القوى الشرائية فى جداول المقارنة بين أسعار السلع والخدمات عبر الدول، فعليك أن تتصور ما الذى يمكن أن يشتريه المواطن المصرى بـ135 قرشا وكم تمثل من دخله، وما يمثله 7.5 سنت فى الولايات المتحدة الامريكية أو السويد! أنا أعرف أشخاصا يمكنهم الحصول على وجبة إفطار فى مصر بسعر الكيلووات، وهو ما لا يمكن قوله فى الولايات المتحدة بأقل من ثمانية سنتات!
التكلفة ومستوى المعيشة ومستويات الدخول كلها عناصر حاكمة لدى المقارنة، وهذا أمر لا أختلقه من عندى، فابحث إن أردت عن إحصائيات مقارنة لأسعار الكهرباء وأضف إلى محرك البحث هذه الحروف PPP أى ما يعنى purchase power parity فسوف تجد أن تعادل أو تماثل القوى الشرائية يغير تصنيف الدول بين المجموعات الأعلى والأقل تكلفة للكهرباء وغيرها من خدمات وسلع. وعلى الرغم من أننى لم أجد إحصائية تشمل مصر فى هذا الخصوص، فإننى أعتقد أن 7.5 سنتا تساوى فى مصر أكثر من 28 سنتا بما يزيد على الأسعار فى إيطاليا المشهورة بأنها من أعلى الدول تكلفة».. انتهى الاقتباس من المقال.

***
فى دولة صناعية كبرى مثل ألمانيا التى تعد شريكا مهما لمصر فى مشروعات إنتاج الكهرباء التى أضيفت حديثا إلى الشبكة القومية، تستهلك صناعات الصلب والألومنيوم والنحاس والكيماويات والمنسوجات نحو 70% من الاستهلاك الصناعى للكهرباء، ونحو 27% من إجمالى الكهرباء المستهلكة فى الدولة. هذه الصناعات تخضع لما يعرف بمنظومة المساواة الخاصة special equalization scheme (BesAR) والتى تقدم الامتيازات والإعفاءات التى ذكرنا بعضها فى مقدمة المقال، نظرا لكون تلك الصناعات ذراعا استراتيجية مهمة للدولة، تواجهه منافسة عالمية ضارية لا يتحكم فى كثير من محددات أسعار منتجاتها. إلغاء تلك الامتيازات يمكن أن يتسبب فى إغلاق العديد من المصانع وتشريد الكثير من العاملين قدرت أعدادهم دراسة ــ مرفوعة إلى وزارة الشئون الاقتصادية والطاقة الألمانية ــ صادرة عن «إيكوفيس» ECOFYS فى يوليو 2015 بنحو 104 آلاف وظيفة فى مختلف قطاعات الاقتصاد بحلول عام 2020! كما قدرت الوظائف المفقودة فى القطاعات الصناعية وحدها بنحو 70 ألف وظيفة. الرفع التام لسياسات التمييز السعرى التى تحصل عليها الصناعات كثيفة استهلاك الكهرباء من شأنه أن يرفع أسعار جميع المنتجات بنحو 3.5% فى المتوسط، وأن تنخفض الصادرات الألمانية بنسبة 0.3% بما يعادل 4.7 مليار يورو (علما بأن كثيرا من المنتجات الألمانية كثيفة استهلاك الكهرباء تنافس على الجودة ومن ثم يقل معها مكون الأسعار نسبيا كعنصر منافسة عالمى وإقليمى) العائد الصافى على الناتج المحلى الإجمالى الألمانى هو خسارة 4 مليارات يورو بحلول عام 2020.
هذا النوع من الدراسات والتقديرات يرشد السياسة النقدية والمالية للدولة، بما تتضمنه الأخيرة من سياسات ضريبية ودعم وتسعير لمنتجات استراتيجية. هذا النوع من الترشيد هو ما نتطلع أن تقوم به وزارة التخطيط، ونراهن على حكمة السيد وزير الكهرباء والطاقة ومن ورائه المجموعة الاقتصادية فى الامتثال له.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved