مسارات محتملة للمنافسة الأيديولوجية بين القوى العظمى

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الخميس 2 أبريل 2020 - 9:55 ص بتوقيت القاهرة

نشرت مؤسسة rand Corporation بحثا تناول التهديدات الفكرية والأيديولوجية التى تشكلها القوى العظمى من الصين وروسيا على أمن الولايات المتحدة... نعرض منه ما يلى:
الولايات المتحدة منهمكة فى مواجهة حقبة جديدة تتنافس فيها القوى العظمى تحديدا فى مجالات المعلومات والأفكار والأيديولوجيا. يهدف هذا البحث إلى مساعدة صناع القرار الأمريكيين توقع التغييرات فى المنافسة الفكرية العالمية وتكييف سياساتها وفقا لذلك من خلال التركيز على تحليل سياسات الصين روسيا... ويعمل على الإجابة على عدد من الأسئلة منها؛ إلى أى مدى صاغت الصين وروسيا أيديولوجيات بديلة أو وجهات نظر عالمية تتحدى النظام الدولى القائم اليوم؟ وكيف يسعون حاليًا إلى المنافسة الأيديولوجية مع الولايات المتحدة، وكيف يمكنهم فعل ذلك فى المستقبل؟ كيف تؤثر الجهات الفاعلة الأخرى، بما فى ذلك الفواعل من غير الدول، على هذه المنافسة؟ وكيف ستقنع الصين وروسيا الجماهير حول العالم بمزايا بدائل النظام الدولى الحالى؟ وما هو الخطر الذى ستتعرض له الولايات المتحدة وحلفاؤها فى هذه المنافسة؟


•••


صعود الصين يعطيها المقدرة على تشكيل العالم تبعا للصورة والأفكار التى تريدها لجذب المجتمع الدولى. تحاول الصين تأمين ما تعتبره مكانها الطبيعى فى العالم وهو الهيمنة على آسيا وزيادة تأثيرها على الصعيد العالمى مع تراجع قوة الولايات المتحدة... وما شهدته الصين من تقدم اقتصادى وعسكرى يؤهلها إلى ذلك. فى ذلك تركز أيديولوجية الصين على التنمية والتأكيد على السيادة الوطنية، بخلاف ما تركز عليه الليبرالية من حرية.
على المستوى الدولى يعد المفهوم الأساسى فى عهد شى جين بينج هو «مجتمع المصير المشترك للبشرية»، المبنى على «نوع جديد من العلاقات الدولية» يقوم على «الاحترام المتبادل والعدالة والمنفعة المشتركة». يتبنى شى جين بينج أيضًا «مفهومًا أمنيًا جديدًا»، تم تعريفه فى خطابه عام 2014 بأنه «تفكير جديد بشأن الأمن المشترك الشامل والتعاونى والمستدام» والرغبة فى تشكيل «شراكات وليس تحالفات». تطرح هذه المفاهيم الصين كبديل سلمى للسياسة الخارجة العسكرية للولايات المتحدة.
وضعت الصين مبادرة الحزام والطريق لتكون منصة لتحقيق مشاريعها الأيديولوجية. وهذه المبادرة كما توفر الترابط المادى، يوفر مجتمع المصير المشترك شكل الترابط غير المادى لربط المنطقة بعضها ببعض. وما تطمح إليه الصين هو أن يؤدى الترابط الاقتصادى إلى ترابط أمنى لتلك الدول مع الصين لحماية ثمار تفاعلاتهم. هذا المكون الأيديولوجى هو جزء واحد فقط من المنافسة الأمريكية الصينية الجارية بالفعل، ولكنه عنصر لديه القدرة على تغيير التوازن دون الحاجة إلى القوة العسكرية أو حتى النفوذ الاقتصادى.


•••


أما بالنسبة لروسيا، باستثناء بقاء النظام، فإن التأثير الإقليمى هو أهم مصالحها الاستراتيجية لتتجنب التهديدات التى قد تنشأ من الكيانات المجاورة على النظام فى روسيا، على سبيل المثال الثورات الملونة فى جورجيا وأوكرانيا. ثمة مصلحة رئيسية أخرى تتمثل فى اعتبار روسيا «قوة عالمية رائدة» يتمثل دورها فى الحفاظ على الاستقرار والعمل كضابط للقوى ضد الولايات المتحدة والغرب.
فى الواقع، تطورت الأيديولوجية الروسية فى ظل بوتين من تبنى المعايير الغربية إلى الدفاع عن كيان أوراسى منفصل، ولكن متساوٍ، لمواجهة التجاوز الجيوسياسى والثقافى للنظام الليبرالى بقيادة الولايات المتحدة. على سبيل المثال، تحول موقف روسيا من مؤيد للولايات المتحدة فى حربها ضد الإرهاب إلى منتقد لأفعال الولايات المتحدة غير المسئولة.
يركز بوتين على دور روسيا فى حماية ما يسمى بالقيم المحافظة ضد تصدير نموذج التنمية الغربية الذى يهدد بإزالة المعايير الثقافية الراسخة فى المناطق المختلفة حول العالم، بما فى ذلك دول الاتحاد السوفيتى السابق. ومن منظور جيوسياسى، فإن فكرة دعم الجماعات المحافظة ذات التفكير المماثل ــ لا سيما فى أوروبا ــ تتناسب مع الرؤية الروسية عن المركزية المتعددة، بمعنى أن يكون لكل كيان الحرية فى تحديد بنيته السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية بدون غزو للأفكار الأجنبية. علاوة على ذلك، تميل المجموعات فى الغرب ــ خاصة أوروبا الشرقية ــ التى تتوافق مع الموقف الروسى بشأن القضايا الثقافية إلى دعم روسيا بشأن الأمن والنظام الدولى.
تتوافق نتائج الانتخابات الأخيرة فى بعض الدول الغربية، مع جهود روسيا للتأثير على هذه الدول وإلى حد كبير وصلت الأحزاب أو القادة «المناهضون للغرب» أو «الأصدقاء لروسيا» إلى السلطة فى السنوات الأخيرة، ومثل هذه النتائج يمكن أن تلعب دورًا فى إعادة تنظيم أوسع للسياسة الأوروبية فى السنوات المقبلة. بالنظر إلى المستقبل، يعتمد مدى نجاح روسيا فى تحقيق رؤيتها إلى حد كبير على استمرارية الوضع السياسى الراهن فى جميع أنحاء العالم الغربى.


•••


فى تقييم المسارات المختلفة التى قد تتبعها المنافسة الإيديولوجية المستقبلية، تقترح أدبيات العلوم الاجتماعية أربعة أنماط فى أدوار الأفكار والأيديولوجيات فى الشئون العالمية. كل من الأنماط التالية له آثار على الصين وروسيا فى السنوات القادمة:
أولا: عندما تصبح الدول أكثر قوة أو تتصور نفسها على هذا النحو، تميل طموحاتها الأيديولوجية إلى النمو وفقًا لذلك. لدى كل من الصين وروسيا مشاريع أيديولوجية ولكنها ليست متماسكة ولا يتم التعبير عنها أو اتباعها باستمرار. ومع ذلك، مع تزايد قوة الصين، من المرجح أن تنمو طموحاتها الأيديولوجية. إن روسيا قضية أكثر تعقيدًا وطموحاتها الأيديولوجية أقل وضوحًا من طموحات الصين. قد تستمر روسيا فى التصرف بشكل انتهازى، باستخدام الأيديولوجية كسلاح عندما تناسب مصالحها المباشرة، أو قد تلزم نفسها برسالة أكثر اتساقًا.
ثانيا: تميل الدول عادة إلى إعادة إنتاج نفسها على المسرح العالمى. على المستوى المحلى فى دول أخرى، غالبًا ما يدعمون أنظمة أخرى تشبه أنظمتهم، وعلى المستوى الدولى، غالبًا ما يدعون إلى «قواعد لعبة» توازى ممارسات الحكم المحلى الخاصة بهم. من المرجح أن تتبع الصين وروسيا هذا النمط.
ثالثا: تميل الدول ذات الإيديولوجيات المتباينة إلى اعتبار أعمال الآخر أكثر تهديدًا مما هى عليه فى الواقع. ولأن الأيديولوجيات غالبًا ما تنتشر جغرافيًا، تتفاعل الدول المهددة أحيانًا عن طريق إنشاء مناطق عازلة أيديولوجية.
رابعا: عادة ما يحدث التغيير الإيديولوجى السريع فى فترات الأزمات. فى الأوقات العادية، يميل معظم الناس إلى مقاومة التحديثات الشاملة لإيديولوجياتهم السياسية. ومع ذلك، فى أوقات الأزمات، قد يصبح الناس أكثر تقبلا للأفكار التى يبدو أنها تقدم حلولًا لمشاكلهم.


•••


هذا البحث يسعى إلى رسم مسارات محتملة التى قد تتبعها القوى العظمى فى المنافسة فيما بينهم.
فبالنسبة للصين، من المسارات التى من الممكن أن تتبعها هو نهجها القديم فى تشكيل المؤسسات العالمية والنظام الدولى من الداخل إلى الخارج. وهذا من شأنه أن يجعل الصين تضخ أفكارها ومعاييرها ومفاهيمها فى الحوكمة العالمية بمرور الوقت، مما يضعف الأعراف الغربية باعتبارها المبادئ الرائدة فى العالم ويخلق مساحة أكبر للنظام الصينى دون الحاجة إلى مؤسسات جديدة. فى هذا المسار، ستسعى الصين إلى حشد البلدان النامية لتطبيع النموذج الاقتصادى الذى تقوده الصين فى منظمة التجارة العالمية، وإعادة توجيه حقوق الإنسان العالمية نحو التنمية البشرية، وإصلاح الأمم المتحدة بما يعزز سيادة الدول وإضعاف مسئوليتها فى الحماية.
أما المسار الثانى ستسعى فيه الصين إلى تقديم للعالم رؤية منافسة للحكم والتنمية الاقتصادية والأمن فى صيغة «النموذج الصينى» كبديل للرأسمالية الليبرالية الغربية. فى هذا المسار المستقبلى «الموازى» ستبنى الصين نظاما يستثنى الولايات المتحدة لكنه لن يشكل مواجهة صريحة معها، وستعمل على إضعاف التحالفات الأمريكية وإعادة صياغة التنمية كأساس للأمن تحت غطاء مفهومها الأمنى الجديد. اعتمادًا على العداء العام بين الولايات المتحدة والصين، يمكن أن يتحول هذا النظام الموازى من المنافسة الاستراتيجية إلى صراع عالمى فى حرب باردة جديدة.
فى المستقبل الأبعد، يمكن للصين الطموحة أن تسعى لإنشاء نظام عالمى جديد تمامًا بمؤسسات وقواعد وعلاقات جديدة. فى هذا المستقبل، تتجه بكين نحو نشر نظامها السياسى الاستبدادى والاقتصادى إلى دول أخرى، ودعم الحركات السياسية والدفاع عن الأنظمة ذات التفكير المماثل. سوف تتحول آسيا إلى منطقة لا يُسمح فيها بالوجود الأمريكى وسيقلص من عدد الديمقراطيات فى جميع أنحاء العالم.


•••


أما بالنسبة لروسيا فلديها الفرصة إما لاتخاذ نهج أكثر معارضة للخطر أو الوصول إلى مصالحة جزئية على الأقل مع القوى الغربية. ففى مسارها المستقبلى الأول، سوف تتصالح روسيا مع قدراتها المحدودة من خلال السعى إلى الحصول على قدر من الحماية إما من نظام عالمى يسيطر عليه الغرب أو الصين. ستسعى روسيا إلى تحقيق اعتراف بحكم الواقع بالمناطق التى تسيطر عليها، فى مقابل السماح بالتأثير الاقتصادى الصينى فى آسيا الوسطى أو وقف حرب المعلومات لإثارة الفتنة وعدم الاستقرار فى الغرب.
الخيار الثانى، المسار المتوازى، ستتبنى فيه روسيا نهجا لا تتحدى فيه النموذج الغربى، ولكن ستنضم إلى دول أخرى لبناء مؤسسات بديلة تكون، بحكم تعريفها، أكثر تمثيلًا لمصالح ما يسمى بالدول غير الغربية، مثل منظمة «البريكس».
فى حالة المسار الثالث، الأيديولوجى الثورى، من المرجح أن تنشر روسيا أفكارها الدينية المحافظة المعادية للغرب والليبرالية فى سعيها إلى حماية محيطها وبنائه على نموذج من الحكم الاستبدادى والقيم التقليدية والاتفاقات الاقتصادية التفضيلية. سيشمل هذا «الاتحاد الأوراسى» الجمهوريات السوفيتية السابقة، باستثناء دول البلطيق، وسيتم الاعتراف بها من قبل القوى العظمى الأخرى باعتبارها مجال نفوذ روسى محمى من التدخل الخارجى فى الشئون السياسية والاقتصادية والثقافية الداخلية لأعضائها.


•••


هذه المسارات التطورية والثورية والمتوازية للمنافسة الإيديولوجية هى أدوات فكرية لتقييم مجموعة من البدائل، على الرغم من عدم وجود أى مشروع أيديولوجى فعلى من المحتمل أن يقع بالكامل.. قد تؤدى لحظات جديدة من الأزمات إلى تقويض أسس النظام العالمى الحالى الهش، وفى مثل هذه الظروف، يمكن للأفكار والأيديولوجيات الجديدة أن تتسبب فى تغييرات سريعة فى ذلك النظام ومكانة الولايات المتحدة فيه.

إعداد: ابتهال أحمد عبدالغنى
النص الأصلى: اضغط هنا

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved