اضحَك للصورة

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 2 أبريل 2021 - 8:50 م بتوقيت القاهرة

نبتسمُ في العادة عند التقاطِ الصُّور، نتوخَّى مظهرًا جميلًا مُبهجًا سواء كان المزاج رائقًا أو عليلًا؛ فالمزاجُ سيتغير إن أجلًا أو عاجلًا، أما الصورة فتبقى عمرًا. في استديوهاتِ التصوير يطلب المُصّور ابتسامةً مَحسوبة؛ انفراجةَ شفاه مُتوسطة، لا هي ضحكةٌ كبيرة ولا فمٌ مَزموم؛ فإذا لم يعجبه أداءَ الزبون، أعاد اللقطةَ ودفع بالذقنِ يمينًا ويسارًا، وأمال العنقَ قليلًا ثم رفعه مرة أخرى، وفي بعضِ الأحيان تذمَّر مِن عدم اتباع أوامره بدقّة؛ وكأن الملليمترات التي يعدلها ستصنع فارقًا مهولاً. 

***

الصور التي تُلتقَط بمَعرفةِ المَصالحِ الحكُوميةِ لاستخراجِ بطاقاتِ الهُويةِ والمستنداتِ الرسميةِ الأخرى؛ هي الأكثر بعثًا على الضحكِ والسُخرية. لم أر صورةً في رخصةِ قيادةٍ أو رقمٍ قوميّ؛ إلا وصاحبها قد ظهرت له معالمٌ جديدة، واقتربت ملامحُه مِن ملامحِ شخصٍ آخر لا يعرفه؛ فهذا قد أُغلِقَت إحدى عينيه، وهذه قد وَقفت خصلاتٌ مِن شعرِها كأنها قد مُسَّت بالكهرباء.

***

بعضُ السفاراتِ تطلبُ صورًا ذات شروطٍ مُحدَّدةٍ قاسية؛ الأذنُ ظاهرةٌ، الشعر لا يُغطي جزءًا من الجَبهةِ، النظرةُ مُحايدةٌ، والأهم غياب الابتسامة. يظهر المرءُ إما مُتجهمًا أو بليدًا ساهمًا؛ وتكون تلك هي اللقطةُ المَطلوبة.

***

فكرت مرةً ومرَّات، في الكتابةِ عن صورةٍ إجباريةٍ لا فكاك مِنها ولا مُراوغة. صورةٌ لا تتطلَّب الهدوءَ والسُّكونَ والاحتفاظَ بوضعٍ ثابت، بل تقتنص اللحظةَ وتُسجلها عنوَة. كلما أُخِذَت صورتي قسرًا، عاهدت نفسي على الكتابةِ، وكلما تعرَّضت للوَمَضات السريعةِ المُتلاحقةِ؛ اتخذت في سري القرار؛ فما إن أعود أدراجي حتى أنسى الأمرَ أو أتناساه، لفرط سذاجة المَوقفِ ولا مَعقوليته. 

***

على أحد الطُرق الشهيرةِ، جسران تفصل بينهما مسافةٌ ليست بطويلة، يحمل كلٌّ مِنهما مجموعةً مِن العدساتِ الصغيرةِ المُزوَّدةِ بفلاش، والمُثبتة على الجسمِ المعدنيّ بعرضِ الطريق. تطلُّ العدساتُ مِن علٍ وترقبُ الرائحين والغادين، فيما يضيء الفلاش وينطفئ في سرعةٍ تشتت الانتباهَ، وأظنه لا يرتبطُ بحركةِ السيارات في الأسفلِ أو بسرعتها؛ إنما هو مُصمَّم ليعملَ بغضّ النظرِ عن أي شيء. يَمضي الطريقُ سلسًا سريعًا في أيامِ العطلاتِ وفي غيرِ أوقاتِ الذُروةِ، عدا ذلك فإنه يتحرك ببُطءِ السلحفاء؛ لكن العدساتِ المُشرِفة عليه لا تميز ولا تهتم؛ إنما ينطلقُ ضوءها الصاعق مِن المَوقع المُهَيمن، وتنفلت ومَضاتُها في وجوه قائدي السيارات؛ فتمنعهم لحظيًا عن الرؤية.

***

توقفت حركةُ المُرورِ ذات مَرة وجاءت وقفتي أمام الوميض مُباشرة، حتى وجدتني عاجزةً عن استبقاء عيني مفتوحتين. لم أجد حلًا سوى أن أنزلَ شمسيةَ العربةِ لتحميني، بينما الليل قد حلَّ منذ ساعات.

***

مكانُ الجسرين مَعروفٌ، والعدساتُ ليست مَخفيةً، والهدفُ المَنشود مَحلَّ سؤال. يعلم السائقون دومًا أماكنَ الكمائن والراداراتِ، وينبّهون بعضهم البعضَ بتشغيلِ إشارةِ الانتظار، يُهدئون السرعةَ إلى أن يعبروا مَنطقةَ الخَطرِ، ثم يعودون إلى التسابق مِن جَديد، فما الحالُ إذًا والصورةُ تُؤخَذ على رؤوسِ الأشهاد، لا العدسةُ مَحجوبةً عن النظر، ولا ضوءها هادئٌ ضَعيف؟ 

***

الحقُّ أن حضورَ العدساتِ القويّ ليس هو ما يُثير شهيةَ الكتابةِ، بل تلك الوَمضات العشوائية المُزعجة، التي أظنها قادرة على التسبُّب في حوادثَ مُروريةٍ شَتّى؛ فالسائقُ الذي يَقصد الطريقَ للمرةِ الأولى سيُفاجأ بها، وكرد فعلٍ تلقائيٍ قد يُغلقُ عينيه، وفي طرقاتٍ لا يلتزمُ المنطلقون عليها بأي علامةٍ أو إشارةٍ أو دليلٍ، ولا يعتمدون الخطوطَ البيضاءَ حدودًا لمساراتهم، فإن غمضةَ عينٍ، وغفلةَ وعيٍ لا تستغرقُ سوى جزء من ثانيةٍ؛ لكفيلة بأن تُحدثَ تصادمًا مُرَوعًا. 

***

بعيدًا عن التساؤلاتِ والتحفُّظاتِ وما قد يفد إلى الذهنِ مِن انتقاداتٍ، أظنُّ الصورَ التي تخزنها هذه العدساتُ؛ لو أنها حقًا تفعل؛ ستحملُ تعبيراتٍ عجيبةٍ وشديدةِ التنوع تعكس ردَّ فعلِ السائقِ والراكبين معًا. صدمةٌ ربما أو دَهشةٌ، فزعٌ أو غضبٌ أو استنكار وضِيق، ومن المُحتمل أيضًا أن تكونَ ابتسامة.

***

في الصورةِ مُتسع للتأويلِ وفي فعلِ التصوير والتسجيل احتفاظٌ بالزمن؛ وبأفعالٍ قد تغيب ما لم يبق عليها شاهدٌ؛ حكيمةً كانت أو مأفونةً، رشيدة أو يعوزها شيءٌ مِن المَنطقُ والاتزان.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved