إلى أين هذا العصاب النفسى العربى؟

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الخميس 2 مايو 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

للفيلسوف الألمانى الشهير فريدريك نيتشة قول معبّر وهو «أن مرض الجنون نادر عند الأفراد، ولكنه هو القاعدة عند الجماعات والأمم وحقب التاريخ». والواقع أن المتابعة المتأنية الموضوعية للكثير مما يحدث يوميا فى مشهد ما بعد ثورات وحركات الربيع العربى يذكِّر الإنسان بذلك القول المتشائم ما لم يراجع نفسه.

 

قد لا يكون المشهد قد وصل أغلب لاعبيه إلى مرحلة فقدان العقل ذاك، لكن من المؤكّد أن أعراض ما يعرف بالعصاب النفسى فى علم النفس أصبحت منتشرة فى كل مكان. ومع أن هناك أنواعا عديدة من العصاب النفسى إلا أن المشهد المجتمعى العربى يزخر بأهمّ دلالتين لوجود ذلك العصاب وهما القلق المبالغ فيه والخوف الذى لا مبرّر له.

 

أما القلق المبالغ فيه فيقرأه الإنسان يوميا أو يستمع إليه عبر شاشات الفضائيات فى شكل بكائيات وتشاؤم وفقدان أمل ينشرها من لم يقرأوا التاريخ الإنسانى بعمق أو من ليس لديهم على ما يظهر إلماما بطبيعة العمل السياسى وحدود الحراك فى ساحات. ولذلك يبالغون فى تقييم حجم ووزن الأخطاء التى لا شكّ أنها ترتكب فى الحياة السياسية فى أقطار ما بعد الثورات والحراكات. قلقهم المبالغ فيه يدفعهم لاعتبار الأخطاء كوارث غير قابلة للتصحيح. ومن حيث يدرون أو لا يدرون يدخلون الجماهير العربية فى ثلاَّجة اللا مبالاة وفقدان الأمل أو جحيم الكفران بإمكانيات الشعوب والمجتمعات.

 

ومع أن الثورات والحركات العربية قد كسرت حواجز الخوف التاريخية عند الإنسان العربى ونجحت فى تحقيق ذلك فى أيامها الأولى، خصوصا بالنسبة للخوف التاريخى من السلطان وسطوة سلطاته الاستبدادية، إلا أننا نشاهد الآن صعود لغط خوف عصابى غير منطقى بشأن ما سيأتى به المستقبل من جهة وبشأن طبيعة ما تتطلبه المرحلة الانتقالية الحالية من تجارب تنجح أو تفشل ومن محاولات مستمرة مكلفة ومجهدة لنفض غبار تخلُّف القرون ولفتح كوَّة نور فى عالم الظلام الذى عاشته الأمة سنين طويلة.

 

●●●

 

لسنا نخاف من العصاب النفسى ذاك، فمثلما عند الأفراد فإنَّه أيضا قابل للعلاج والشفاء عند الجماعات والمجتمعات. لكننا بالفعل، إن طال الأمد وترسَّخت تلك الأعراض، التى نخاف أن ننتقل ذهنيا وتصرُّفا إلى مشارف الجنون عندما يتحوَّل القلق والخوف إلى أوهام وهذيان وهلوسة. مثلما يحدث ذلك عند الأفراد فإنه قابل لأن يحدث فى المجتمعات يكفى أن يطلّ الإنسان على مشهدى ما يحدث الآن فى سوريا والعراق، كمثلين، ويستمع لما يقوله المتصارعون حتى يقتنع بأن الهذيان والأخيلة المريضة وهلوسات المجانين قد أصابت الغالبية السّاحقة من الأطراف، إلا من رحم ربى، وهم قلّة معزولة لا حول لها ولا قوُة. ألسنا نرى نيرونات بغداد ودمشق وهم يعزفون قيثاراتهم بينما العاصمتان تحترقان؟

 

لماذا هذا التوجُّس؟ لأن الساحة العربية تعجُّ الآن بأعداد ليست بالقليلة من المفكرين والكتاب والمتحاورين والمفسرين والمجتهدين الذين يدفعون الناس والمجتمعات، من خلال نقد تشكيكى سطحى واستعمال لألفاظ السخرية والاستهزاء وقراءات فكرية مراهقة، نحو مربَّع العصاب ــ الجنون ذاك. بعض هؤلاء ينتمون حتما لقوى الثورات المضادة التى تحارب كل تغيير وتجديد، وبعضهم من الذين لا يستطيعون مع هذه الأمة صبرا.

 

دعنا نذكر أنفسنا بقول للطبيب النفسى الاسكتلندى المعروف، ر.د. لانج، الذى كتب بأن «الجنون لا يقود بالضرورة إلى الانكسار المدمر، إذ أنه أحيانا يقود إلى كسر الحجب «الذى يقود إلى الخروج من الأزمة. ذلك أن كثيرا مما أفرزته أحداث ما بعد الثورات والحركات ليس بالضرورة سيقود إلى انكسار الأمة المدمر، فقد يقود إلى انكسار الحجب التى كانت تحجب هذه الأمة عن رؤية موجبات النهوض من عثراتها التاريخية المزمنة.

 

لكن كسر تلك الحجب ما زال ينتظر فعلا سياسيا يحيِّد الأصوات النَّشاز المتكالبة على عقل وروح الأمة ويقنع الإنسان العربى، ومن بعده العالم كله، بأن ثورات وحركات الربيع العربى كانت مدخلا لتغييرات كبرى رائعة مبهرة.

 

كسر تلك الحجب لن يتم بحجم تاريخى على مستوى كل قطر ولا على مستوى هذا الفريق أو ذاك ولا على مستوى هذه الإمكانية الواعدة، ولكن المحدودة، أو تلك. لا بدّ له أن يكون على مستوى الوطن الكبير والأمة الواحدة والعمل الواسع الهادر المشترك.

 

●●●

 

نعود هنا إلى ما كتب عنه الكثيرون عبر سنين طويلة: ضرورة بناء كتلة تاريخية من مؤسسات المجتمعات العربية المدنية غير الملوَّثة بالعلل والفساد والانتهازية ومن أنصار تلك الكتلة من الأفراد المستقلين العادلين فى منطقهم ومواقفهم.

 

إذا كان شباب الثورات والحركات يريدون أن يروا فى حياتهم تحقُّق ذلك الحلم المتسامى بالحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، الذى مات من أجله إخوة لهم يستصرخونهم من قبورهم، فعليهم أن يعملوا من أجل ولادة تلك الكتلة التاريخية. بدون وجودها كفاعل حقيقى فى الحياة السياسية العربية لن تجدى التجمعات فى السَّاحات والمظاهرات فى الشوارع. تستطيع هذه الأخيرة أن تهدم الاستبداد ولكنها لن تكون كافية لكسر الحجب وبناء المستقبل.

 

لن يهزم من يؤجِّجون العصاب النفسى والجنون فى طول وعرض الوطن العربى إلا وجود تلك الكتلة المتراصّة، وستكون لنا عودة إلى موضوعها فى الأيام القادمة.

 

 

 

مفكر عربى من البحرين

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved