النفاق

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 2 مايو 2017 - 10:15 م بتوقيت القاهرة

طلبت الأم من ابنتها تأجيل التهام قطعة الحلوى إلى ما بعد تناول وجبة الغذاء. ابتسمت الطفلة لأمها ابتسامة ناعمة وأكدت استجابتها بأن أزاحت قطعة الحلوى عن مكانها. اطمأنت الأم وراحت تعد لابنتها وجبة الغذاء. ما إن غابت عن بصرنا إلا وهرعت طفلتنا ذات العامين وشهور إلى قطعة الحلوى تفك غلافها وتلتهمها فى سرعة مدهشة.

***

وقعت الخطوبة وما كادا يتعارفان حتى انهال كل على الآخر بباقات من المديح. كلما اجتمعت مع صديق أو صديقة تحدثت عن بدائع الخطيب وعلامات ذكائه ومعادن رجولته وشهامته. أما هو فراح يطنب عند أهله فى ذكر روائع خلقها ومحاسن ذوقها وحسن تدبيرها ولم يمض على تعارفهما سوى أيام معدودة. انتقلت الحماسة إلى أمها حتى شوهدت تنتقل من بيت إلى بيت ومن ناد إلى آخر تسرد القصص عن عمق جذوره وأصالة معدنه وعن أراضى العائلة التى كان يحدها فى الزمن الجميل محطة قطار عند طرفها الجنوبى وعند طرفها الشمالى محطته التالية.
***
نقلوا فى عام 19688عن هنرى كيسنجر، الأستاذ الشهير فى جامعة هارفارد، رأيه فى رتشارد نيكسون المرشح الجمهورى لمنصب رئاسة الجمهورية وكان مضمون الرأى أن نيكسون شخص لا يصلح أن يكون رئيسا، وأن ترشيحه خطوة نحو «كارثة» على وشك أن تقع. لم يكتف كيسنجر بإبداء رأيه هذا ضمن الدوائر الأكاديمية وداخل نخبة المثقفين بل طلب التحدث أمام أعضاء الحزب الجمهورى. خطب فيهم واصفا رتشارد نيكسون بأنه أخطر الرجال المرشحين لمنصب الرئاسة. الجدير بالذكر أن كيسنجر تولى أهم المناصب على الاطلاق فى إدارة الرئيس نيكسون، وبفضله ومشورته انفتحت الدبلوماسية الأمريكية على الصين الشعبية، وبفضله ومشورته ارتفع رصيد اسرائيل فى الشرق الأوسط وانخفض رصيد كل العرب، وبفضله ومشورته خرجت أمريكا من فيتنام بهزيمة مشرفة.
***
يقول تارتوف بطل رواية موليير إن الشر لم يقع طالما لم يعلن عنه. المعصية التى يرتكبها انسان فى سكون ليست معصية. تارتوف كان يحاول غواية زوجة صاحب العمل واقناعها بأن المعصية لن تكون معصية طالما بقيت سرا.

***

قال لصاحبه قليل الخبرة، لا تفاخر قومك وأقرانك بأن ليس بين معارفك جميعا شخص واحد يكرهك أو يعاملك بحذر. لم يفهم النصيحة إلا بعد سنوات حافلة بالتجارب وغنية بالخبرات. فهم أن شخصا بلا خصوم هو أحد اثنين، إما شخص لا يؤثر فيمن وفيما حوله، أو شخص عرف يرضى كل الناس وهو الأمر المستحيل. إرضاء الناس كلهم يعنى قدرة خارقة على أن تقول شيئا وتفعل فى السر عكسه تماما. هذه القدرة هى نفسها التى اجتمع الرأى عليها منذ قديم الزمان بأنها التعريف الأمثل للنفاق.

***

أليس خضوعك لقانون لم تضعه أنت شخصيا نوعا من النفاق. بعضنا يجد متعة كبيرة فى قيادة السيارة بسرعة فائقة. ما تفسير التزام هذا البعض بقانون المرور الذى يحرم تجاوز السرعة عن ثمانين كيلومترا فى الساعة بينما تحرضهم هوايتهم على سرعة تصل إلى المائتين على طريق أقل ازدحاما. لا تفسير لهذا الالتزام إلا أننا نجامل أو ربما ننافق السلطة واضعة هذا القانون، نظهر لها غير ما نخفى. نحترم القانون الذى وضعته وأخضعتنا له ولكننا فى الحقيقة لا نحبه، ولدى أول فرصة تتاح لنا سوف نكشف عن حقيقة ميولنا.

***

سمعة السياسيين فى كل مكان سيئة. هم متهمون بأنهم أكثر من غيرهم من أصحاب المهن والحرف منافقون فى العمق كما على السطح. السبب واضح وبسيط. هم فى أحسن أحوالهم مجبرون على ممارسة أسلوب الحل الوسط وبخاصة عندما تتعقد الأمور. تجدهم ساعتها يبحثون عن حل وسط يجنبهم استخدام العنف لفرض ارادتهم. إن مجرد لجوء السياسى أو الدبلوماسى للحل الوسط يجعله عرضة للاتهام بممارسة درجة عالية أو منخفضة من النفاق. كلاهما يبدأ مفاوضاته من النقطة الأمثل، وقد تكون مبدأ وعقيدة أو مصلحة قومية لا يجوز التهاون فيه أو فيها، وكلاهما ينتهى به الأمر إلى فعل شىء غير ما يؤمن به وما أقسم اليمين على احترامه.

***

قناص المنافقين. قرأت هذه العبارة لأول مرة قبل سنوات غير قليلة. كان قائلها يصف بها ظاهرة الويكيليكس أى مجموعات التسريبات التى ظهرت تكشف عن حقيقة وعمق النفاق الدائر عبر شبكات الانترنت بين مسئولين ومسئولين. كما انكشفت أسماء شخصيات مشهورة ضبطت متلبسة تقول شيئا لا تجرؤ على قوله فى موقع آخر، أو تقبض أموالا ربما اعتقدت أنها تستحقها مقابل جهود ولكنها أموال أو هبات أو مميزات أو جهود إذا انكشفت حوسبت بالقانون أو بالضمير الجمعى حسابا مختلفا. بعض هؤلاء مارسوا نوعا أو آخر ودرجة أو أخرى من النفاق، ولكن النفاق الأعظم الذى يعشش داخل كهوف السياسة ودوائر الاستخبارات وعوالم الحيتان فى معظم عواصم العالم هو الذى تولى بمظلته الواقية حماية صغار المنافقين أو الاستفادة من هذا النفاق الأصغر.

***

أغلب ما يصدر عن حواس الإنسان يجوز أن تشوبه شبهة النفاق. فقط ما يصدر عن قلبه لا نفاق فيه.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved