نظرة متوازنة للعلاقات الأمريكية الخليجية

عبد العظيم حماد
عبد العظيم حماد

آخر تحديث: الخميس 2 مايو 2019 - 8:35 م بتوقيت القاهرة

فى عام 1978، وبعد سلسلة من وقائع وتصريحات التنكر من جانب إسرائيل للتفاهمات الأمريكية المصرية الإسرائيلية فى كامب ديفيد وبعدها، استبد الغضب بالرئيس الأمريكى وقتها جيمى كارتر من اجتياح إسرائيل لجنوب لبنان، دون موافقة واشنطن أو علمها، فأطلق أول وآخر تصريح قوى له ضد السياسة الإسرائيلية، قائلا أن إسرائيل يجب أن تجبر على «الركوع على ركبتيها».

كان كارتر يخشى من أن ذلك الاجتياح لجنوب لبنان يقوض محاولاته لبناء ثقة متبادلة بين أمريكا والعرب وإسرائيل، أملا فى أن تكون اتفاقات كامب ديفيد بداية لتسوية شاملة للصراع العربى الإسرائيلى.

بعد ساعات من تصريح الرئيس الأمريكى عقد مناحم بيجن رئيس الوزراء الإسرائيلى حينذاك مؤتمرا صحفيا عاجلا، بدأه ببيان غاضب يقول فيه إن إسرائيل لا تركع لغير الله، مطالبا كارتر بسحب تهديده، والأهم أن بيجن عدد الخدمات الاستراتيجية الثمينة التى أدتها، ولا تزال تؤديها إسرائيل للولايات المتحدة فى الشرق الأوسط، وغيره من مناطق العالم، بما يجعل ما تتلقاه الدولة اليهودية من معونات أمريكية عسكرية واقتصادية وسياسية ثمنا متواضعا لهذه الخدمات، وطبقا لحديث رئيس الوزراء الإسرائيلى فقد ساهمت إسرائيل بدور كبير فى حصر وهزيمة المد القومى العربى المعادى للولايات المتحدة، كما ساهمت فى حصر المد الشيوعى، وهزيمة النفوذ السوفيتى فى المنطقة، وذلك من خلال هزمها عسكريا لأبرز حلفاء موسكو.. أى مصر وسوريا فى يونيو عام 1967.

لم يصمد كارتر طويلا، فاضطر إلى الصمت أمام قوة الحجة الإسرائيلية، وأمام الضغوط الداخلية، واكتفى بلعق جراحه، والشكوى إلى زواره من الزعماء العرب مخافة ألا يعاد انتخابه.

ترد هذه القصة على الخاطر بمناسبة تكرار حديث الرئيس الأمريكى الحالى دونالد ترامب لمقولة إن بلاده هى التى وفرت الحماية، ولا تزال توفرها لدول الخليج العربية، وإن على هذه الدول التى تتمتع بوفرة مالية هائلة أن تدفع لواشنطن ثمن هذه الحماية، وأن من سبقوه من الرؤساء الأمريكيين كانوا أغبياء لأنهم لم يطلبوا هذا الثمن، فهل هذا التوصيف أو التكييف من جانب ترامب للعلاقات الأمريكية الخليجية صحيح على إطلاقه؟ أى هل كان الغرم دائما على الولايات المتحدة، والغنم دائما للخليجين؟ وهل حقا كان جميع الرؤساء الأمريكيين السابقين عليه أغبياء، حين لم يتقاضوا ثمنا نقديا ــ تحت أى مسمى ــ لحمايتهم لعرب الخليج؟.

بالمقياس الإسرائيلى الذى استخدمه بيجين، فإن الخليجيين قدموا للولايات المتحدة مثلما قدمت إسرائيل وربما أكثر بكثير، فهم ناهضوا المد القومى العربى بكل الوسائل، مستخدمين فى ذلك المال والإعلام وتنصيب الإسلام خصما ونقيضا للفكر القومى، وقاموا بنفس الدور داخل وخارج الشرق الأوسط فى مواجهة المد الشيوعى والنفوذ السوفيتى، بل إن السعودية تحديدا هى صاحبة الدور الأكبر فى تحويل مصر السادات من التحالف الاستراتيجى مع الاتحاد السوفيتى إلى التحالف الاستراتيجى مع الولايات المتحدة، ثم كانت السعودية ومعها مصر هى صاحبة الدور القيادى والمباشر فى إلحاق الهزيمة النهائية للسوفيت، بما أدى فى نهاية المطاف إلى انهيار الاتحاد السوفيتى ككل، وانتصار أمريكا والغرب فى الحرب الباردة، وذلك من خلال تمويل وتسليح وتدريب «الجهاد الأفغانى» ضد الاحتلال السوفيتى، وتجنيد المسلمين من كل مكان فى العالم للمشاركة فى هذا الجهاد.

ليس من المبالغة فى شىء القول بأن الهزيمة فى أفغانستان كانت هى بداية النهاية للاتحاد السوفيتى، فذلك ما أكده بنفسه زبيجنيو برزينسكى مستشار كارتر للأمن القومى، وبانى التحالف الدولى والإقليمى الحاضن والداعم للجهاد الأفغانى، فقد رد الرجل على منتقديه بسبب إحيائه للتطرف الاسلامى من خلال الحرب الأفغانية بعد هجمات 11 سبتمبر متسائلا باستنكار: وماذا يساوى بضع مئات من المسلمين المهتاجين أمام تدمير الإمبراطورية السوفيتية، وتحرير أوروبا الشرقية؟!

لم يكن ذلك الدور السعودى فى أفغانستان هو الإسهام الوحيد الكبير فى تدمير الإمبراطورية السوفيتية، فمن قبله استخدمت أسعار البترول لدفع الاقتصاد السوفيتى إلى الشلل والافلاس، فحين أقدمت منظمة أوبك بقيادة السعودية وشاه إيران ــ فى أعقاب حرب أكتوبر 1973 مباشرة ــ على مضاعفة أسعار البترول عدة مرات متوالية ومتسارعة، كان السوفيت وحلفاؤهم من دول العالم الثالث هم الضحايا، إذ على الرغم من أن الاتحاد السوفيتى كان من أكبر منتجى ومصدرى البترول الا أنه لم يستطع بيعه لدول أوروبا الشرقية ــ الاشتراكية الدائرة فى الفلك ــ بالأسعار العالمية، التزاما بقواعد السوق الاشتراكية، ومن ثم لم يعد السوفيت قادرين على تمويل وارداتهم من الغرب، التى حلقت أسعارها عاليا جدا بسبب أرتفاع أسعار البترول، كما لم يعد السوفيت قادرين على مواصلة دعم حلفائهم فى أنحاء العالم، وهو ما أدى إلى توقف تجارب التنمية المستقلة فى دول العالم الثالث، التى كانت تعانى بدورها أشد المعاناة من ارتفاع أسعار وارداتها من السلع المصنعة، مع بقاء أسعار صادرتها من المواد الخام عند معدلاتها المتدنية، أو كما قال رئيس تنزانيا وقتها جوليوس نيريرى: «قبل ارتفاع أسعار البترول كنا نبيع طنا من البن مقابل جرار زراعى، واليوم نبيع أكثر من عشرة أطنان من البن لنحصل على جرار واحد».

بالمناسبة لا تزال السياسة البترولية السعودية ملتزمة بالتنسيق مع الولايات المتحدة فى تسعير البترول فى السوق العالمية، وللمفارقة فإن ترامب نفسه قال أخيرا إن السعودية والإمارات استجابتا لطلبه زيادة انتاجهما من النفط لمنع ارتفاع أسعاره بعد فرض العقوبات على إيران، بما يمنع نفط الأخيرة من دخول السوق الدولية.

حقا فمحاصرة إيران تمثل مصلحة وهدفا لكل من السعودية والإمارات حاليا، ولكنها أيضا مصلحة وهدف أمريكى وإسرائيلى، إذن فالأهداف مشتركة بين كل هذه الأطراف، بما ينفى فكرة الرئيس الأمريكى المبسطة والمجتزأة عن حماية بلاده لدول الخليج.

بعد أن أثبتنا تهافت إدعاء ترامب بالحماية المجانية لدول الخليج العربية، مستخدمين المقياس الذى وضعه مناحم بيجين رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، كما سلف القول، ننتقل إلى نقطة أخرى، فنتساءل عن الخطر الحالى الذى يتهدد هذه الدول وتحميها أمريكا منهم.

كل الأصابع تشير إلى إيران، ومع ذلك فليس سرا أن الجميع سلموا بقوة واستقرار النفوذ الإيرانى فى العراق وسوريا ولبنان، ولكن الصراع لايزال مفتوحا فى اليمن، وعلى جبهة البرنامج النووى الإيرانى، الذى يشغل الإسرائيليين بأكثر مما يقلق الخليجيين، و الذى يتذرع به ترامب لمعاقبة إيران اقتصاديا وسياسيا.

من منطلق خليجى صرف نتساءل: متى أسقطت العقوبات نظاما سياسيا فى بلد من البلدان مهما تبلغ قسوتها؟!

فقد عاش نظام صدام حسين فى العراق أكثر من عشر سنوات تحت العقوبات، ولم يسقطه إلا الغزو العسكرى الشامل، فهل من المتوقع أن تغزو أمريكا وإسرائيل إيران؟

ذلك مستبعد لأسباب كثيرة، منها مخاطر الانتقام فى الخليج وفى العراق، بما يفجر أزمة طاقة عالمية، وبما يقلقل الأوضاع الداخلية فى كثير من دول المنطقة، ولا نستبعد أيضا الانتقام من شمال إسرائيل، بواسطة حزب الله، ومن تلك الأسباب أيضا التخوف من حرب استنزاف لقوات الغزو، تستغلها روسيا القريبة من إيران للثأر للهزيمة السوفيتية فى أفغانستان، وقد رأينا نموذجا لهذا الثأر فى الاختراقات، والتلاعبات الروسية فى انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة.

لكل هذه الاعتبارات ربما، بل يجب التفكير فى مبادرة إقليمية للتهدئه والتفاهم، وصولا إلى حسن الجوار والتعاون بين دول الخليج وإيران، فمن المؤكد أن إيران فى لحظة تضطرها إلى المرونة، ومن المؤكد أيضا أن الخليجيين يمرون بنفس اللحظة فى مواجهة ضغوط وابتزاز ترامب، وهذا ما وافقنى عليه معلق سياسى عربى كبير واسع الصلة بالعواصم الخليجية، فى حديث على غداء بالقاهرة أمس الأول، ومن لمثل هذه المبادرة غير مصر، كما قلنا ــ هو وأنا ــ فى نفس واحد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved