وجبة كل يوم

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 2 مايو 2020 - 7:30 م بتوقيت القاهرة

الكثير من الهمجية، القليل من الذوق. لقد استيقظت من النوم وعلى البشرية أن تفيق، هكذا يقول البعض في قرارة نفسهم. المُدرسة التي ضبطت ساعتها البيولوجية على وقت الجرس وطابور الصباح تظن أنه على الجميع اتباع نظامها اليومي وأن تلك هي الساعات الطبيعية للنشاط وإعطاء الأوامر لمن حولها. تملي على حارس العقار، من شرفة الدور الرابع حيث تقطن، تعليمات النظافة وشراء الطلبات قبل أن تغادر إلى عملها. حارس العقار بدوره يعتقد اعتقادا راسخا هو وأسرته أن العالم قد خلق من أجلهم، وأن ضيق الحال وكثرة العيال يعطيهم شرعية التعاطف، وبالتالي يحق له أن يفعل ما بدا له في أي ساعة من ساعات النهار والليل. نحن في مكان ما مسؤولون عن رعيته وعن صيامه وعن ضيوفه وعن سحوره الذي يستمر حتى آذان الفجر، وإلا فهنالك إنكار لمظلوميته. من حق أطفاله أن يلعبوا وأن يشخط فيهم وأن يهز صياحه أرجاء الغرف والبنايات المجاورة وأن يتبول ابنه الأكبر في الممر ويجري عاريا قبل أن يستحم. ألا يكفي أنه يعيش في الخلاء بين العمارات السكنية؟ عليه إذاً أن يحول المساحة التي استقطعها لذويه إلى عشش قابلة للتمدد في عشوائية دائمة كبر وترعرع في ظلها. الهمجية والفوضى هما نظام حياة متكامل، وعلى المتضرر ممن يلعبون كرة القدم والاستغماية بصوت مرتفع، تتخلله كلمات بذيئة تخرج من الأفواه بمنتهى التلقائية، أن يلجأ لمن يريد إذا استطاع لذلك سبيلا.
***
الكثير من الشكوك، القليل من إعادة النظر. كتب علينا جميعا أن نلعب "حزر فزر.. شغل عقلك" حتى يمضي بنا قطار العمر. الفيروس ألقى بنا في بحر من المجهول. نتكهن بما سيكون عليه شكل العالم غدا ونقف على مفترق طرق. كل شيء يدفعنا إلى عدم اليقين. هل سيحتفظ ابن العمة بوظيفته في الخليج؟ هل سيتمكن قريبنا الآخر من دفع تكاليف دراسة أولاده في الجامعات الدولية التي اختاروا؟ هل سترتفع أسعار النفط مجددا؟ وكيف سيكون وضع الأسواق؟ هل سيُضرب الاقتصاد الإفريقي في مقتل؟ هل ستزداد وفيات الجائحة ثقيلة الظل؟ هل سيرجع الزحام إلى سابق عهده؟ وثقب الأوزون؟ لا أحد يعرف عن يقين ما الذي سيحدث، وبالتالي يضرب الجميع أخماسا في أسداس، وتنطلق التكهنات إلى ما لا نهاية فتزيد من حالة الريبة التي نلهث وراءها متعبين. لا قبل لنا بتفسير النماذج الإحصائية التي تجسد مجموعة من الفرضيات. نضيع في دروب الفرضيات، وليس في مقدور كل الأفراد أن يعيدوا النظر بعمق في شؤونهم وأن يطلعوا على الأسرار.
***
الكثير من الأتربة، القليل من المهنية. المشهد ذاته يتكرر في الشارع الواسع. يقف الكناس على طرف الحديقة ممسكا بمقشة مصنوعة من قحف الجريد. يعرف غالبا أنه لا جدوى من الكنس تحت حرارة الشمس في وقت الظهيرة والزحام، لكنه يقف هنا حيث كُتب له أن يكون. يمشي على أطراف الأصابع وكأنه يخاف أن يدوس الأرض. التراب الذي يحركه يمينا وشمالا دون جدوى إلى جوار الرصيف يتحول إلى شذرات من الغبار. يصير منظره خزعبليا ككل شيء حولنا. تحيط به هالة من التراب بملابسه البرتقالية، ويسبه- على الأقل في سره- كل من يمر به أو يتوقف في الإشارة وتهب في وجهه هذه العاصفة المفتعلة. لا قناع ينفع، ولا قواعد مهنية. هكذا تسير الأمور. نحرك التراب من اليمين إلى اليسار، نشتته في جميع الاتجاهات، بجوار الرصيف، على أمل أن يتوارى عن الأنظار أو يعتاد الناس وجوده، والمشكلات تظل عالقة في الجو كالغبار.
***
الكثير من المسلسلات، القليل من الملح. عندما يأتي المساء يأتي معه طوفان المسلسلات. نلتهي بمتابعة أحداث الدراما، ونصبح مجرد متفرجين ومشجعين ومعلقين. ما الذي تنصحون بمشاهدته؟ أين تكون نسبة الإعلانات الأقل؟ وما هي آخر وصفات الحلو والحادق؟ ضعي قليلا من الملح في العجين، حتى عند تحضير "الكيك"، فهو يجعل طعم المخبوزات رائعا ويساعد على تفاعل الخميرة. رشة الملح التي تصنع العجب نحتاجها في كل شيء، فهي قد تعدل المايلة كما نقول. القليل من الملح يحسن الطعام. وبعض المسلسلات أيضا تكون بحاجة للقليل من الملح، وربما الفلفل، لتتوازن التركيبة الدرامية. هذا كثير النكد، وذاك هزلي ساخر، ونحن نلتهم وجبة كل يوم بقليلها وكثيرها، بحلوها ومرها. نهرب إلى الشرفة، نطل منها على الشارع القريب الداني، فيفاجئنا الكثير من الفُل، والقليل من زهر الصبار.. زهور مبهرجة، فتية، ونحن حائرون في مدينة مضطربة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved