قراءات في ملحمة الحرافيش: القراءة الثالثة.. أناشيد الروح

داليا سعودي
داليا سعودي

آخر تحديث: الإثنين 2 مايو 2022 - 6:30 م بتوقيت القاهرة

وتمضى الأيام، وأحضر حلقة بحثية لتدارس أثر تجاور لغات مختلفة فى متن نص أدبى واحد وأثر هذا التجاور على الترجمة. رحنا ننظر فى أثر التعدد اللغوى فى مفتتح «الحرب والسلام» لتولستوى، وفى مراسلات پوشكين، وأشعار پول ڤاليرى، وكتابات نابوكوڤ.. فكان المثال الحاضر فى مساهمتى هى «ملحمة الحرافيش» وتجاور العربية والفارسية على صفحاتها. ففى لحظات الذروة الدرامية، حين تخلو الساحة من نأمة، ويواجه أبطال الملحمة محنتهم فرادى، تنساب أناشيد التكية بأشعار حافظ الشيرازى باللغة الفارسية. يوردها نجيب محفوظ بلغتها دون تفسير أو إشارة للمعنى. وتتلقاها الحارة ومعها القراء بكثير من الحيرة والدهشة أمام غموض معانيها. فما قصة تلك الأناشيد؟ وما مدلولها فى بناء «ملحمة الحرافيش»؟
• • •
يذكر محفوظ «الأناشيد» مرتين منذ الصفحة الأولى. يذكرها الراوى المستعلى فوق أحوال الحارة فى المفتتح الشاعرى الذى يحفظه عشاق «الحرافيش» عن ظهر قلب. هذه هى «الأناشيد البهيجة الغامضة» تتناهى إلى الأسماع منذ بداية القص. ها هى تشجى الآذان المنصتة للحكى، وكأنما هى خلفية صوتية سرمدية للحارة التى تحاكى ببزوغها فى الفجر بدء الخليقة. وها هو الشيخ عفرة الكفيف يسترشد بالأناشيد المحفزة للبصيرة فى غياب البصر، كأنه «تيريسياس» الأعمى البصير فى «أوديب ملكا».
ثم تتوالى اقتباسات محفوظ من غزليات واحد من أهم شعراء الأدب الفارسى، هو شمس الدين محمد (لاحظ الاسم وإسناده لبطل الحكاية الثانية فى الرواية)، المعروف بحافظ الشيرازى (726هــ791ه)، والملقب بـ«لسان الغيب» و«ترجمان الأسرار»، الذى أقبل فى القرن الثامن الهجرى على دراسة علوم الدين واللغتين العربية والفارسية وحفظ القرآن الكريم فاشتهر بالحافظ. وقد اختاره محفوظ لأن شعره يكتنز بالرمز، ويتصف بالغموض والإبهام وتراكب الدلالات، ويغترف بجمال من الحكمة والفلسفة والتصوف. وهو اختيار محير، فهنا شاعر عصى على الفهم بين أهله، وهنا اقتباسات بلغة لن يفهمها قراء العربية. ما يعنى أن الإبهام مزدوج ومركب!
• • •
فى عينى القارئ المتفحص، يبدو أحد أهم مطامح نجيب محفوظ وهو يكتب «الحرافيش» هو أن يمنح اللغة العربية الفصحى ملحمتها الكبرى. فبمثل ما للغة الأكدية ملحمة «جلجامش»، ولليونانية «الإلياذة» و«الأوديسا»، أراد نجيب محفوظ أن تكون للعربية ملحمتها الفصيحة المكتوبة. ولا يُعزى ذلك الطموح إلى ضخامة المشروع فحسب، وإيثاره الفصحى على العامية حتى فى الحوار، وإنما بالأساس إلى عمق التفكر فى الخامة اللغوية التى حُشدت عناصرها فى نسيج أشبه بالحرير.
لذا قد يستغرب البعض، فى ظل هذا الطموح اللغوى لكتابة عملٍ يرسم مجد لغة الضاد، أن تطل لغة أعجمية من بين سطورٍ كُتبت بلسان عربى لقراء عرب. لكن لهذا الإعجام دور فنى كبير. فهو أولا يحيط شاعرية النص بحالة من الغموض والإبهام الذى يحفز على التفكر فى أسرار الغيب وأسئلة الماورائيات، فيحول واقع الحارة إلى واقع أسطورى لا تصل إلينا سرديته بصورة مباشرةٍ فجة وإنما من خلال غلالة صوفية جمالية. لكن التصوف هنا لا يُوَظَف بأفكاره العقدية والفلسفية، وإنما يُستخلص منه رحيق الجماليات الفنية فحسب.
ثانيا، ثمة دلالة أخرى لتجاور اللغتين العربية والفارسية. تتكاثف الصور الشعرية فى «الحرافيش» بقلم الأستاذ نجيب محفوظ حتى لكأنه يتاخم بنثره المنظوم حدود الشعر. وعند حدود التكية التى انقطعت عن عالم الحارة واستغلقت دونها، ها هو أديبنا يقرر القفز فوق الحدود التصنيفية للأدب لينسب لأهل التكية كلاما غير كلام أهل الحارة فى طبيعته كما فى لغته. وفى وثبة من وثبات التجريب الإبداعى، يقرر أن يكون كلام أهل التكية هو الشعر، وأن تكون أناشيدهم فارسية اللسان، رمزية الدلالات، صوفية المخايل. فالسور الذى يفصل التكية عن الحارة هو سور لغوى بيانى بمثل ما هو سور مادى جغرافى. سورٌ يرسم الحد التعبيرى الفاصل بين الحارة المنغمسة فى مادية الحياة وبين التكية السابحة فى فضاءات الروح. ومن وراء السور، تنثال أشعار حافظ الشيرازى دون غيره فتحرك شجون أبطال الملحمة المنخرطين فى تأمل مصائرهم فى مواجهة التكية المتحصنة بغموضها وغرابتها وعزلتها.
• • •
لكن محفوظ الذى يقدم لنا كتابة مليئة بالإحالات والإشارات والرموز ينتظر من قارئه أن يكون على درجة مناسبة من النشاط بحيث يسعى لفهم هذه الأبيات الغامضة. فالثابت أننا لو فهمنا معناها سنجدها وثيقة الصلة بالأحداث داخل الرواية. وكأننا بصدد كورال مسرحى يعلِق على الأحداث كما هو الحال فى المسرح الإغريقى. هكذا يجب ألا يكون قارئ الحرافيش كسولا فى محاولة فهم أناشيد التكية بل يجدر به أن يكون مشاركا بإيجابية فى تفسير النص وتأويل رموزه وإضافة لبنته الشخصية إلى هذا البنيان السردى المعجز.
ولقد أورد الناقد الكبير رجاء النقاش الترجمة العربية لتلك الأبيات التى أجراها المترجم الكبير إبراهيم الشواربى لأشعار حافظ الشيرازى، وهى الترجمة التى استند إليها نجيب محفوظ عند إجراء اختياراته. لكن ما سأجتهد فيه اليوم هو إدراج معانى تلك الأبيات فى سياقاتها داخل الرواية. ولضيق المساحة لن أكتب الأبيات كما وردت بالفارسية وإنما سأورد ترجمتها مباشرة.
• • •
• بعد رحيل الشيخ عفرة، يخرج عاشور من فردوسه الأول محزونا مثلما هبط آدم من الجنة، «تلاحقه الأناشيد»، لكن بطلنا لا يلتقط معانيها. فنسمع منها:
«يا من ضياء القمــــر من وجهك النضير يسطع
ويامن ماء الحسن من بئر غمازتك العميقة ينبع» (16)
فى كتمانها حكمة المقادير، تبدو الأناشيد وكأنها تغنى لعاشور لتواسيه. سيكتشف بطلنا أنه لقيط، وسيخرج من غفلته العذراء. عندها سيبدو له غموض الأناشيد شبيها بغموض أصله، «معانيها المترنمة تختفى وراء ألفاظها الأعجمية كما يختفى أبواه وراء وجوه الغرباء» (20).
• يعود درويش (إبليس) إلى الحارة بعد اختفاء، فيستوهب عاشورَ مالا فيهبه بطلنا ما معه وهو من الضيق فى غاية. فيختفى الشقى ويبقى صوت عذب ينشد بيتا قيل إن حافظ الشيرازى أنشده فى رحيل ابنه، ومعناه:
«إن إنسان عينى غارقٌ فى لجة من الدماء..»
مازال عاشور يذكر أباه الشيخ عفرة، «لولا ذكرِى مولاى ما مددت إليك يدى»، يقولها لدرويش، فيأتى الغناء العذب ليختم الفقرة فيبعث معناه ما يعتمل فى نفس عاشور من أسى وفقد.
• ثم يزأر الوباء فى الأجواء، ويتمدد ظل الموت فوق الرءوس، فيلوذ عاشور بساحة التكية، يناجى دراويشها الغائبين: «لا نغمة رثاء واحدة تنداح بينها. ألم تعلموا يا سادة بما حل بنا؟ أليس عندكم دواء لنا؟ ألم يترام إلى آذانكم نواح الثكالى؟ ألم تسمعوا النعوش وهى تُحمل لصق سوركم؟» (56). وحين يقرر الهجرة من الحارة تودعه الأناشيد معبرة عن التجائه لله:
هذه أعتابك.. ولا ملجأ فى العالم إلا هذه الأعتاب
هذا بابك ولا معتصمَ لرأسى إلا فى هذا الجناب»
• تعرف الأناشيد كيف تصمت بمثل ما تعرف كيف تنساب. فحين ينقلب شمس الدين على أمه، يطبق الصمت على ساحة التكية (127). ويمضى به العمر فتغشاه كآبة، لا سيما بعد رحيل عجمية زوجته. إنه لا يخشى الموت بل الشيخوخة وانكسار الجبروت. فتأتى الأناشيد كمرآة لحسرته:
أين تفاوت الحال من خراب حالى.. أين؟
وانظر تفاوت الطريق من أين إلى.. أين!
• وتغيب الفتونة عن أبناء الناجى وأحفاده، يهرب بكر، وتُقتل رضوانة، ويبقى خضر وحيدا وسط عذاباته، وإذ هو ساهر فى الساحة أمام التكية، مستجيرا بذكرى أجداده الأبطال، ترتفع الأناشيد «مثل الهداهد هاتفة» (217):
هؤلاء الذين يحيلون التراب بنظراتهم إلى كيمياء
ياليتهم ينظرون إلينا بطرف أعينهم ليحيا فينا الرجاء
• يُضطر سماحة المطارد طوال خمس عشرة سنة إلى رحلة هروب جديدة، فيذهب مودعا أطفاله وعمه ويخرج من الحارة مشيعا بتراتيل التكية الباكية (271):
أما ألمنا لفراقه فلا دواءَ له.. فالغياث الغياث
وأما هجره لنا فلا نهايةَ له.. فالغياث الغياث
• يعود سماحة فى نهاية عمره إلى الحارة، شيخا ضريرا حولته المحنة إلى إنسان بالغ العزوف والنقاء، ومثل الشيخ عفرة سيعرف طريقه إلى الساحة «عن طريق الأذن والشم واللمس، والإلهام الباطنى، فحمد الله كثيرا على العودة إلى الوطن ليدفن فى معية العظماء. وعندئذٍ تتعالى الأناشيد بالحكمة الأزلية:
إن من يرعى جانب أهل الله
يحفظه الله فى جميع الأحوال من البلاء...
• تغيب الأناشيد فى فترة صعود زهيرة الأمازونية صارعة الرجال، وفيما «جلال ابن زهيرة»، الفتوة المتغطرس، يتجول مختالا فى الساحة، ويصف أهل التكية بالأموات، تتعالى الأناشيد كأنها صوت الأقدار ساخرة محذرة (420):
عندما تنفس الصباحُ تحدث طائر الخميلة مع الوردة الجميلة فقال:
ما أكثر ما تفتح مثلُكِ فى البستان.. فأقلى ما أنتِ عليه من دلال..
• ثم تنقطع الأناشيد مع توالى عهود الفساد والبلطجة، حتى يسمعها عاشور الحفيد إذ هرع محزونا إلى ساحة التكية صارخا «ما أشد ألمى يا جدى!». فتهتف الأناشيد (515):
بغير شمس وجنتيكَ لم يبقَ ليومى نور
ولم يبق لى من العمر إلا الليلُ الديجور
• وأخيرا استقر النصر للحرافيش وانتصر عاشور الحفيد على صبوات نفسه، وحده هو من بين كل شخوص الرواية الذى بدا له «كأن الأناشيد الغامضة تفصح عن أسرارها بألف لسان وكأنما أدرك لِم ترنموا طويلا بالأعجمية وأغلقوا الأبواب». وإذ انفتح الباب فى المشهد الختامى نسمع هذا البيت الشهير لحافظ:
ليلة أمس، فى وقتِ السحر، أعطونى النجاة
من الألم والويل، وناولونى ماءَ الحياة فى هذه الظلمات من الليل
عن تلك الأبيات، كتب إبراهيم الشواربى، مترجم أشعار حافظ، فى كتابه «حافظ الشيرازى، شاعر الغناء والغزل فى إيران. (بيروت، دار الروضة، 1989، ص 169):
«روى أن حافظ الشيرازى كان يعشق فتاة تسمى «شاخه نبات» كانت تعرض عنه دائما. فدفعه ذلك الحب الفاشل إلى أن يختار العزلة والاعتكاف، فاختار ضريحا فى شمالى مدينة شيراز يعرف بضريح «بابا كوهى». فلزمه أربعين يوما يتقرب فيها إلى الله بالدعاء والتضرع. فلما كاد يكمل أيام عزلته زاره هنالك ــ فيما يقولون ــ الإمام على وأطعمه طعاما سماويا فأنشد غزله المعروف»، الذى ختم به محفوظ ملحمة الحرافيش:
دوش وقت سحر از غصه نجاتم دادند واندر آن ظلمت شب آب حياتم دادند

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved