مناديل وأحلام

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 2 يونيو 2018 - 9:40 م بتوقيت القاهرة

منذ أكثر من قرن والمحتجزون المكسيكيون في سجون جنوب الولايات المتحدة الأمريكية يرسمون على مناديل القماش التي يتسلمنوها مع أمتعة الحبس. قطعة مربعة صغيرة تتسع لأحلام ورسائل عدة يبعثها المسجون لذويه ورفاقه في الخارج، فالكثيرون منهم كانوا لا يعرفون القراءة والكتابة في القرن التاسع عشر حين بدأ هذا التقليد، وبالتالي كانوا يلجأون إلى الرسم للتعبير عن ما بداخلهم وتحدي الأسوار. ويختلف قطعا مضمون الرسالة تبعا لهوية المرسل إليه، فللأهل يبعث المسجون بباقات الورود أو بصورة السيدة العذراء، وللزوجة والأطفال يتم رسم صور تشبه شخصيات الكرتون للبوح بالأشواق وتبادل المرح والنكات، أما للرفاق والزملاء فموتيفات الوشم التقليدي قد تساعد في تشفير المراد والاتفاق على خطط مستقبيلة، لذا كانت السلطات تحاول دوما فك هذا التشفير والوصول إلى المعنى المطلوب بواسطة خبراء متخصصين. ومع مرور الوقت، صار لهذه الرسومات شعبية في سوق الفن، وصارت تشكل ثروة قد تتمكن العائلة من بيعها وبداية مشروع جديد يساعدها في المعيشة والكسب. كما أصبحت رسومات الزنازين مصدر إلهام جمعي وتحليل اجتماعي يرتبط بقطعة قماش صغيرة هي المنديل الذي اختفى تقريبا من حياتنا اليومية.
***
في مسلسل "ليالي أوجيني" الذي يعرض حاليا تحتفظ البطلة بمنديل الطبيب الذي شغل قلبها دون أن تدري، منديل يحمل طرفه الأحرف الأولى من اسمه، كما جرت العادة في طبقات معينة. تذكرنا بوظيفة المنديل في قصص الحب، وكيف كان يرمز إلى سحر الغواية عندما كانت تلقي به الحبيبة في خفر ليهيم العاشق الولهان على وجهه، ويظل يشم رائحة عطرها فيه. المنديل الذي كان يحفظ في الجيب بالقرب من القلب كان يحمل معان عدة وله لغته الخاصة، فإذا قبض عليه بشدة في تجويف اليد دل على غيرة، وإذا وقع عمدا على الأرض كاد أن يقول "إلحق بي"، وإذا استخدم للتلويح به عند الفراق، مع رحيل القطار أو السفينة، كان يعني "انتظرني واخلص لي" أو " البعد ليس بالضرورة مرادفا للجفاء".
نقش عليه الشعراء القصائد وكلمات الأغنيات، حين يأتي الإلهام على حين غرة، فتحول إلى معلقات عصرية، قبل أن يظهر أول منديل ورقي في كندا، في أواخر القرن التاسع عشر، حاملا اسم شركة "كلينكس". وصار هذا الأخير يزحف على مثيله من القماش، وينتشر على حسابه، بدافع الطابع العملي والوقاية الصحية. ثم أخذت مؤخرا بعض الأصوات تدعو إلى الرجوع لمناديل الأقمشة لأسباب تتعلق بحماية البيئة والتقليل من مخلفات "الكلينكس" الذي يستهلك تصنيعه الكثير من المياه والأشجار وأطنان الورق، إذ يصل حجم مبيعات المناديل الورقية سنويا إلى 300 مليارا في الولايات المتحدة الأمريكية و20 مليارا في فرنسا، على سبيل المثال لا الحصر.
***
قد نلوح بالمنديل الأبيض طلبا للغوث أو كناية عن الاستسلام والرغبة في السلام، أو تغلبا على الخوف مثلما فعلت أم كلثوم، لكن أيضا قد يحمل المنديل رسائل أكثر عنفا، كما هو الحال بالنسبة لمصارعة الثيران: منديل أبيض واحد ترفعه الجماهير في المدرجات يعني الثناء على أداء الثور الموجود في الحلبة، منديلان هما بمثابة مناشدة للحكم والرئيس أن يثمن جهود الثور والمصارع، ثلاثة مناديل معناها أن الثور أبلى بلاء حسنا وأن اللعب اتسم بالنبل والشرف، وهكذا دوليك.
هناك أيضا "منديل الشرف" الذي يستخدم لفض غشاء البكارة في بعض الأوساط الشعبية المصرية ولدى بعض فئات الغجر حول العالم، حتى لو بدا الأمر فلكلوريا وغريبا، لكنه يستخدم، ولازال يمسح الدم والدموع. قطعة صغيرة من القماش تذهب وتجيء، تشي بالكثير اجتماعيا وثقافيا، ولازالت تحمل الرسائل والدلالات، وتضع أحيانا البسطاء من أصحاب المناديل المحلاوي المربعة، في مواجهة أصحاب المناديل البيضاء المشغولة باليد، كل له أحلامه وموديلاته وبدائله.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved