المعدية أم الكوبرى: وهم الحرية والسرعة

نبيل الهادي
نبيل الهادي

آخر تحديث: الخميس 2 يوليه 2020 - 9:15 م بتوقيت القاهرة

اصطحبت ضيفى الهولندى معى فى السيارة بعد مناقشة لعدة ساعات مع الطالبات والطلبة فى إحدى الجامعات بشرق القاهرة وفى بداية طريق المطار ظللنا شبه متوقفين ربما لمدة قاربت على النصف ساعة بسبب الزحام المرورى الخانق فى بداية طريق المطار. قال لى ضيفى إن السيارة تبيع لنا وهم الحرية ووهم السرعة فهى تهيئ لنا أننا قادرون على الوصول لأى مكان نريده وبسرعة قد لا تضاهى ولكن للأسف فإن الواقع هو ما نحن فيه الآن. لا أتذكر كيف انتهى النقاش ولكن هذا الأستاذ الذى حضر إلى مصر بدعوة منى وبدعم من السفارة الهولندية كان مصمما مبدعا وكان إدراكه للأولويات يدهشنى فى وقتها حيث خيرته قبلها بين لقاء طلبتى الشباب والتحدث إليهم أو زيارة القاهرة التاريخية فاختار التحدث إلى الشباب بلا تردد.
عندما أرى الطرق والكبارى تشق وتوسع فى العديد من الأماكن والعديد من المدن لا أتساءل دائما هل هى فعلا الأولوية الأولى لنا. أم أن هناك من وسائل التنقل الأخرى التى تضع الإنسان وسلامته أولا وهى التى لا يمكن أن تتحقق إلا بسلامة وصحة البيئة الطبيعية المحيطة به. غالبا ما أقوم بتحويل التساؤلات إلى مواضيع للاستكشاف والتعلم ويمتد بعضها ربما لبضع سنوات حتى يمكن تغطية جوانبها المختلفة. فى أحدث تلك المواضيع بدأنا قبل بدايات هذا الربيع فى النظر إلى والتعلم عن كيفية عبور نهر النيل. وكما يشير بعض دارسى الآثار فإن صناعة القوارب من نبات الغاب كان لها تأثير كبير على بداية الحضارة وتطورها فى مصر القديمة لأن القارب الذى ربط بين القرى المختلفة سواء منها المتواجد على الضفة الشرقية مع تلك المتواجدة على الضفة الغربية أتاح التبادل التجارى بين تلك المجتمعات الأولية وهو ما نقل معه العديد من الأفكار والأنشطة والتى ولابد أنها أسهمت فى نشأة وتطور العلاقات البشرية فى الزمن القديم كما ساعد على تلاقح وتطور الخبرات المتنوعة هنا وهناك.
***
تمثل المعديات التى ما تزال موجودة فى مصر على طول نهر النيل من الجنوب للشمال ظاهرة تستحق الاستكشاف ليس فقط لبعدها التاريخى ولكن لأسباب أخرى عديدة. كان لى حظ كبير فى استخدام العديد منها سواء بين قوص ونقادة فى الجنوب أو بين العديد من الأماكن خاصة فى جنوب القاهرة أو فى مدينة رشيد فى أقصى الشمال. ونظرا للعديد من المحددات قررنا التركيز على المعديات فى القاهرة فقط وبدأنا بمنطق سريان النيل أى من تلك المعديات فى أقصى جنوب القاهرة والتى عرفناها فى منطقة ركن فاروق بكورنيش حلوان والتى ترتبط بالضفة الغربية للنيل عند مدينة البدرشين والتى تربطك بأقرب مكان لمدينة منف أو قرية ميت رهينة الحالية. ودرسنا أيضا المعدية التى تربط كورنيش منطقة المعصرة مع الضفة الغربية للنيل حيث مدينة الحوامدية والتى تربطك بعد مسافة ليست بالقصيرة بمنطقة أهرام دهشور المغلقة للسياحة فى الوقت الحالى للأسف.
نناقش إمكانية تطوير تلك المعديات الحالية التى يبدو وضعها متحديا أو ربما متداعيا ونتساءل على أى صورة يجب أن تكون وندرس إمكانية تحويلها لإحدى طرق التنقل المستدام. وهذا التحول يجب أن يعتمد على مبدأين الأول هو تحقيق الاحتياجات أى إلى أى مدى تدعم المعدية احتياجات الناس من وصول بكفاءة أو نقل بضائع أو أى احتياجات أخرى. أما المبدأ الثانى فهو عدم تعدى الحدود القصوى للطبيعة بمعنى آخر مدى مساهمة المعدية فى تدمير أو ازدهار البيئة الطبيعية نظرا لأنها تتعامل بصورة مباشرة مع نظام بيئى هام للغاية وهو النهر ونظام هش وهام للغاية وهو ضفة النهر. وافترضنا أن المعدية يمكن أن تكون وسيلة تنقل مستدامة كما أنها يمكن أن تدعم شبكة التنقل الجماعى المستدام وأخيرا أنها يمكن أن تدعم استعادة البيئة الطبيعية فى القاهرة.
فى الزيارتين الوحيدتين اللتين تمكنا من تنفيذهما قبل تحول الدراسة للوضع الافتراضى لاحظنا أن هناك حركة نشيطة لبناء أحد الكبارى الخرسانية لتسهيل العبور بين ضفتى النيل يقع فى منطقة متوسطة من المسافة بين معدية ركن فاروق ومعدية المعصرة. ولاشك أن الكوبرى الذى ربما يتكلف العشرات من الملايين وربما أكثر كثيرا يعد بتبسيط وتسريع التنقل عبر الضفتين. وربما كان هذا الكوبرى واحدا من العديد من الكبارى التى تعمل وزارة النقل بنشاط لتنفيذها حاليا. نشطت الدولة خاصة من نهاية السبعينيات فى بناء الكبارى العابرة للنهر بالإضافة للكبارى العابرة للتقاطعات ويكفى بالطبع أن تنظر للعديد من أحياء القاهرة لترى تأثير بناء تلك الكبارى.
***
فى مقابل هذه الحركة النشيطة لإعطاء الأولوية للكبارى نرى مسئولين من أمثال عمدة لندن النشيط والمتحمس لدعم وسائل التنقل النشيطة أى تلك التى تعتمد على مجهود الإنسان كركوب الدراجات والمشى كما يدعم أيضا العبارات النهرية وذلك فى إطار خطة رائدة لتحسين جودة الهواء فى المدينة عن طريق خفض عدد المركبات التى تقطع الطرق وتدفع بانبعاثاتها الملوثة فى الهواء. وفى الدول النامية أيضا يتم تحويل المعديات إلى أخرى بالطاقة الشمسية وبذلك تقل إن لم تنعدم الملوثات الناتجة عن المركبات الحالية التى تدار بالوقود ويتسرب منها الزيوت ويخرج منها العادم. وبالرغم من أن المعدية لا تبدو سريعة مقارنة بالسيارة لكن وضعها فى سياق التنقل النشط ووسائل النقل العام المستدام يظهر فوائدها المتعددة لصحة الإنسان البدنية والنفسية وتبعاتها الاقتصادية ودعمها للبيئة. ويضعها ذلك فى موقع متقدم مقارنة بالسيارات الخاصة والبنية التحتية التى تدعمها وخاصة الكبارى مما يؤهلها ليكون لها الأولوية فى توجيه الاستثمارات لتطوير بنيتها الخدماتية التى تقدمها.
لازلنا فى بداية الاستكشاف والتعرف على المعديات وسياقها فى القاهرة ولكننا نأمل فى أن تدفعنا تلك البداية فى إعادة التفكير فى كيفية تفعيل المعديات ووسائل النقل النهرى الأخرى بعد تطويرها ودراسة ربطها بباقى شبكة التنقل فى القاهرة ونعتقد أن ذلك يمكن أن يوفر الكثير من المال والأهم هو أن يدعم تعايش واحترام الإنسان فى المدينة المصرية لبيئته الطبيعية.
أستاذ العمارة بجامعة القاهرة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved