«إيلينا تعرف».. اختبار مروّع لليقين

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: السبت 2 يوليه 2022 - 8:20 م بتوقيت القاهرة

يمكن القول إن الكاتبة الأرجنتينية، كلاوديا بينيرو، قد أخذت الرواية البوليسية إلى آفاق أكثر عمقا واتساعا بروايتها «إلينا تعرف»، التى وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر الدولية 2022، والتى ترجمتها إلى العربية نهى مصطفى، وصدرت عن دار العربى للنشر والتوزيع.

ليست هذه هى الرواية الأولى التى أقرأ ترجمتها العربية لكلاوديا، فقد كتبت عن روايتها المهمة «أرامل الخميس»، وعن روايتها «كلى لك»، وناقشت «أرامل الخميس» فى ندوة حضرتها كلاوديا فى معرض القاهرة للكتاب، كما علقت طويلا على الجانب الاجتماعى فى روايتها، حيث يؤدى العثور على جثث فى حمام للسباحة فى كومباوند فخم، إلى تأمل فكرة عزل البشر وراء أسوار عالية، ودراسة علاقاتهم الاجتماعية والاقتصادية المعقدة.
كان واضحا أن إتقان كلاوديا للحبكات البوليسية، لا يلغى أفكارا مهمة فى حكاياتها، ولا يتجاهل أسئلة أكثر إلحاحا، وقد تبلور ذلك بصورة ناضجة تماما فى «إلينا تعرف»، وهى أفضل ما قرأت من رواياتها المترجمة إلى العربية.
تتابع كلاوديا هنا محاولة امرأة عجوز تدعى «إيلينا» أن تكتشف سر العثور على ابنتها «ريتا» مشنوقة على برج كنيسة، الشرطة قالت إنها عملية انتحار، بينما إيلينا ترفض ما انتهت إليه تحقيقات البوليس، وتشك فى أن أحدا قتل ريتا، وحيثياتها قائمة على ما تعرفه عن ابنتها، التى لا يمكن أن تذهب إلى برج كنيسة فى يومٍ ماطر، خوفا من الإصابة بالصواعق.

ولكننا سنكتشف كلما عشنا رحلة البحث زمانيا (علاقة إلينا بابنتها وتفاصيل الحادث)، ومكانيا (زيارة إيلينا لامرأة تدعى إيزابيل يمكنها أن تساعدها فى إثبات عدم انتحار ريتا)، أن مؤلفة الرواية تفكك هذا الإطار البوليسى على مستوياتٍ متعددة، لصالح أسئلة صعبة ومعقدة، سواء عن علاقة الأمومة، أو عن حدود المعرفة، أو عن الحرية الفردية، أو حتى عن حق الإنسان فى امتلاك القرارات الخاصة بجسده، بل ويمكن أن نعتبر أن رواية «إيلينا تعرف» هى حكاية عن الجسد: جسد إيلينا (المريضة بمرض باركنسون)، وجسد ريتا (المعلق بغموض فى الكنيسة)، ثم جسد إيزابيل (والتى تريد إيلينا منها أن تصبح جسدا يساعدها فى معرفة سر موت ريتا).

الرواية البوليسية تكرس همها فى حلِ اللغز، وبطلها يكشف حقيقة واحدة ساطعة، وهو قوى وقادر على ذلك، ولكن رواية «إيلينا تعرف» سرعان ما تهدم كل ذلك: فالبطلة إيلينا مريضة تتحرك بمشقة للوصول إلى بيت إيزابيل فى مدينة أخرى، وهذه السيدة التى تدعى معرفتها بابنتها، ستنتهى إلى مواجهة حقيقة أنها لا تعرف كل شىء، وبالتالى فإن فرضية إيلينا حول مقتل ابنتها تتعرض لخلل مزعج، عندما تقدم إيزابيل نظرية كاملة لموت ريتا، تمثل وجها آخر للحقيقة.

الرواية البوليسية تجيب عن كل الأسئلة، بينما سيؤدى لقاء إيلينا مع إيزابيل إلى فتح الباب أمام كل الأسئلة، سواء أمام إيلينا، أو أمام القارئ، عندما يتأمل علاقة إيلينا مع جسدها المريض، أو علاقة ريتا مع جسدها الذى تخلصت منه، أو علاقة إيزابيل مع جسدها، ومناقشة حقها قديما فى الإجهاض.
فى كل تنويعة من هذه القصص الثلاث المتداخلة، التى نسجتها كلاوديا بينيرو ببراعة، كان الهدف الوصول إلى فكرة واحدة، وهى حق الفرد فى أن يتعامل مع جسده وفق رؤيته وظروفه. لا يوجد شخص يمكن أن يعرف كل شىء، أو أن يحل محلك فى اتخاذ قرارك الخاص، ولا يمكن أن تعرف حقا إلا بالتجربة، بأن تكون فى مكانى وظروفى، وبنفس قدرتى على التحمل، أو استسلامى للضعف. وهكذا نشاهد استجابات مختلفة: إيلينا وقد اختارت مقاومة الباركنسون، وريتا وهى تنهار، وإيزابيل وقد فاجأتنا بموقفها من ابنتها.

تيمة حرية الاختيار تتفاعل أيضا مع مراجعة علاقات مستقرة، مثل العلاقة مع المؤسسة الدينية (الكنيسة)، والعلاقة مع الابنة (النص كله اختبار لعلاقة الأمومة بين إيلينا وابنتها ريتا والعكس، وعلاقة الأمومة بين إيزابيل وابنتها، ومحاولة ريتا فى الماضى لإنقاذ أمومة إيزابيل).

ثلاث نساء تصنعن الحكاية، وموت ريتا الغامض ليس إلا وسيلة لتحليل هذه العلاقات، ولاختبار فكرة اليقين التى ندعيها فى تقييم قراراتنا الشخصية والأخلاقية، وعند أول اختبار نكتشف أن معرفتنا واهية، حتى بأقرب الناس إلينا، فبأى حق نحكم على قرارات الآخرين؟ وبأى حق نتخذ بدلا منهم قراراتٍ مصيرية تتعلق بحياتهم وبأجسادهم؟
هذه إذن ليست قضية بوليسية، ولكنها قضية حياتنا كلها، فكرة فلسفية عميقة فجرتها حادثة، واندمجت كل تفاصيل الواقعة لخدمة هذه الفكرة. المعلومات الغزيرة عن باركنسون، وعن ريتا وحياتها، وعن إيزابيل ماضيا وحاضرا، كلها تعمل فى إطار اختبار معنى المعرفة، وهدفها تفكيك اليقين والثقة الكاذبة.

الجسد هو محور الاختبار، مرضا أو انتحارا أو رغبة فى الإجهاض، واستخدام كلاوديا بينيرو للسرد عبر طريقة «الراوى العليم»، الذى يكرر دوما عبارة «إلينا تعرف»، هو أيضا فى صميم الفكرة، لأن هذا الراوى العليم الذى يؤكد على معرفة إيلينا، إنما يسخر فى الحقيقة من هذه المعرفة، ومن ذلك اليقين، وهو الذى سينقل لنا منطق إيزابيل القوى، فيهز تماما فكرة المعرفة الكاملة واليقينية.

إننا حتى لا نجزم بأن ما استنتجته إيزابيل عن موت ريتا هو ما حدث بالفعل، ولكننا ندرك الآن أن يقين إيلينا بمعرفة ابنتها قد تعرض لهزة عنيفة، وكانت إيلينا بدورها قد عرضت منطق قس الكنيسة لهزة عنيفة مماثلة فى حوار مهم بينهما، أما موت ريتا معلقة على برج الكنيسة، وهى المعلمة فى المدارس الدينية، فيمثل رمزا خطيرا، يكمل ببراعة تكنيك «الصدمات المعرفية» فى النص بأكمله.
هذا عملٌ كبير وفذ، ذكى ومشوق، ومثير للتأمل، ودليل جديد على قدرة الموهبة، على أن تأخذ النوع الروائى، إلى مستويات رفيعة وملهمة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved