قانون الغدر.. خطوة للوراء

زياد بهاء الدين
زياد بهاء الدين

آخر تحديث: الثلاثاء 2 أغسطس 2011 - 10:10 ص بتوقيت القاهرة

 فى أعقاب ثورة 1952 مباشرة (ديسمبر 52) أصدر مجلس قيادة الثورة مرسوما (تم تعديله عام 1953) بغرض استبعاد رموز النظام السابق من العملين العام والخاص معا، وهو قانون الغدر. وقد نص القانون على أن يعاقب من مارسوا الفساد السياسى أو المالى بالحرمان ليس فقط من العمل السياسى ومن الوظيفة العامة، بل ومن العمل المهنى الخاص أيضا. ونص قانون الغدر على أن المحكمة التى تصدر أحكاما بشأنه تتكون من أغلبية من العسكريين وأقلية من القضاء. بهذا المعنى فإن القانون كان قانونا استثنائيا، سواء من حيث أثره الرجعى، أو طبيعة الجرائم والعقوبات التى تضمنها، أو التشكيل الاستثنائى للمحاكم المختصة بتطبيقه. ومع الوقت وتعاقب العهود السياسية صدرت بعد ذلك قوانين عديدة استثنائية ترمى إلى تحقيق أغراض مشابهة، على رأسها قانون العيب وقانون محكمة القيم وقانون الكسب غير المشروع، إلى آخر القوانين التى اعتبرتها القوى المعارضة المصرية لسنوات طويلة قوانين سيئة السمعة.

وفى أعقاب ثورة يناير 2011 ومطالبة الجماهير بالقصاص من الفساد السياسى والمالى، ظهرت الدعوة لاستخدام قانون الغدر القديم نموذجا، وبالتالى أصدرت الحكومة مقترحا منذ أيام بتعديل وإعادة تفعيل هذا القانون وطرحته للحوار المجتمعى. اقتراح الحكومة هو أن يتم الإبقاء على المادة الخاصة بتعريف جرائم الغدر والتى تشمل أنواعا مختلفة من الفساد السياسى والمالى، ولكن مع تعديل مادة العقوبات بحيث تتضمن الحرمان من العمل السياسى ومن الوظيفة العامة دون الحرمان من العمل الخاص، وأن يتم استبدال تشكيل المحكمة ذات الأغلبية العسكرية بمحكمة جنائية عادية.

وقد أحسنت الحكومة بطرح الموضوع للحوار المجتمعى لكى تستمع لمختلف الآراء، وبالفعل اختلف القانونيون عليه، فمنهم من رأى أن القانون مطلوب لما يوفره من سرعة وحسم فى استكمال تطهير الجهاز الحكومى، ومنهم من اعترض عليه باعتباره قانونا استثنائيا لا لزوم له فى ظل القوانين العادية القائمة والكافية. شخصيا مع اقتناعى بأن غرض الحكومة من تعديل وتفعيل قانون الغدر هو بغلق ملف تطهير جهاز الدولة من رموز المرحلة السابقة لكى تبدأ مصر عملية البناء، إلا أننى مقتنع كذلك بأن قانون الغدر (المعدل) ليس الوسيلة المثلى لتحقيق ذلك لأنه يعيد إحياء تراث التشريعات الاستثنائية التى قد تحقق مكاسب سريعة وملموسة فى انتقال السلطة ولكن على حساب الحقوق والحريات العامة الجديرة أيضا بالحماية.

قانون الغدر صدر فى ظروف استثنائية ليست متوافرة اليوم، ونشأ فى إطار رؤية معينة عن دور القانون فى المجتمع لم تعد مقبولة فى عالمنا الحديث. المجتمع المصرى تغير منذ عام 1952 كثيرا كما تغيرت طبيعة العدالة والقانون والمحاكم فى مصر. نحن اليوم وراءنا ستون عاما من التشريع والقضاء والمحاكم المصرية الوطنية والمستقلة التى لم تكن متوافرة فى بداية الخمسينيات. والقانون المصرى ذاخر بالنصوص العقابية فى مختلف المواضيع، وكلها قابلة للتطبيق. بل إن شكوى المعتصمين فى ميادين مصر لم تكن من نقص النصوص القانونية، وإنما من بطء الإجراءات. فلماذا تكون الاستجابة لذلك بإحياء قانون استثنائى بدلا من تطبيق النصوص الحالية بسرعة وكفاءة ودون إبطاء؟

من جهة أخرى فإن اللجوء لقانون الغدر يعنى العودة لقوانين استثنائية تتعارض مع فكرة العدالة، ويتضح ذلك على وجه الخصوص فى تعريف الجرائم فى القانون (والذى لم تدخل الحكومة عليه تعديلا). جرائم الغدر ــ بقدر من الاختصار فى الصياغة ــ هى الآتية:

(1) القيام بعمل من شأنه إفساد الحكم أو الحياة السياسية، (2) استغلال النفوذ للحصول على ميزة أو وظيفة فى الدولة، (3) استغلال النفوذ للتأثير على أسعار السلع والعقارات والقيم المنقولة، (4) التأثير فى القضاء، (5) التدخل الضار بالمصلحة العامة. وبينما أن المذكورة كلها تبدو أعمالا تستوجب العقاب، إلا أن بعضها محدد وقاطع ويمكن للمحاكم أن تطبقه بما استقر لديها من قواعد ووسائل إثبات وتراث فى الإجراءات الجنائية، بينما بعضها الآخر غير محدد مطلقا، مثل تعبير «إفساد الحياة السياسية»، و«التدخل الضار بالمصلحة العامة» وبالتالى يصعب تطبيقه أو يجعل الجريمة غير محددة المعالم. وهذه للأسف هى طبيعة القوانين الاستثنائية التى تمتلئ بالتعبيرات المطاطة والجرائم شديدة الاتساع إلى الحد الذى يهدد واحدا من أهم الحقوق الشخصية، وهو أن تكون الجريمة محددة النصوص وقاطعة الدلالة حتى لا تستخدم فى الإيقاع بالخصوم وفى تحقيق مكاسب سياسية. هذه لغة فى التجريم كانت معروفة فى العالم كله فى الخمسينيات، ولكن فكرة الحقوق القانونية الشخصية تطورت وتجاوزت ذلك بكثير، وأصبح أهم انجازات الثورات الشعبية الناجحة أن تطهر النظام القانونى من هذا النوع من التشريعات سيئة السمعة وأن ترسخ حقوق التقاضى، وتحدد الجرائم، وتلفظ الاستخدام السياسى للنصوص الجنائية. وكان الأجدر أن نعمل على تطهير النظام القانونى المصرى من هذا النوع من القوانين لا أن نعود إليه.

وأخيرا فإننى أخشى أن يؤدى تفعيل قانون الغدر إلى عكس الغرض المطلوب، أى بدلا من غلق ملفات الفساد الإدارى سريعا، نجد أنفسنا قد فتحنا بابا لعشرات الآلاف من الدعاوى الجنائية التى يختلط فيها الجدى بالكيدى والهزلى، والهام بالبسيط، ويختفى الفساد الكبير وراء الفساد الصغير، وتزيد حالة الشلل الحكومى على كل المستويات. إذا كان المطلوب هو تطهير جهاز الدولة فإن تحقيق ذلك ممكن عن طريق عزل من شاركوا فى الفساد السياسى من الوظائف القيادية باستخدام السلطة العادية لرئيس الوزراء والوزراء فى التعيين والعزل دون حاجة لقانون جديد، ولكن بشرط توافر الإرادة السياسية. وإذا كان المطلوب عزل المفسدين من العمل السياسى، فقد طالبنا مرارا بأن ينص قانون الانتخابات على من يجوز له الترشح ومن لا يجوز. أما الفساد المالى فتكفى له القوانين الجنائية العادية لو طبقت بسرعة وحسم. والأهم من كل ما سبق هو وضع القواعد وإصدار القوانين التى تحقق الوقاية من الفساد فى المستقبل حتى لا تعود ذات الممارسات مرة أخرى. كل هذا ممكن، بل وضرورى، لتحقيق ذات الغرض ولكن دون اللجوء للقوانين الاستثنائية التى عانى منها المجتمع السياسى لفترات طويلة والتى سوف يستخدمها كل نظام فى ملاحقة خصوم الغد الذين قد يكونون حلفاء اليوم وطليعة الثورة. فالقوانين سيئة السمعة لا تتعطل بمجرد أداء مهمتها الأصلية، بل يستمر إغراء استخدامها لإقصاء المزيد من الخصوم السياسيين.

إذا كان عزل رموز النظام السابق أحد المطالب الملحة للثورة، فلا ينبغى أن يكون ذلك على حساب تحقيق العدالة وتطبيق القانون الطبيعى ورفض القوانين الاستثنائية التى يستخدمها كل نظام لمصلحته ولقمع معارضيه. أما الاعتقاد بإمكان تعطيل القانون الطبيعى والعادل من أجل تحقيق مكاسب محددة وسريعة فهذا رهان خاسر لأن ما يضيع من قيمة العدالة فى لحظات الحماس والرغبة فى الإنجاز يصعب استرداده بعد ذلك. العدالة قيمة إنسانية لا تتجزأ، إما أن تقبلها وندافع عنها فى كل الأحوال، أو أن نقبل إهدارها على طول الخط. وإذا تعارضت العدالة يوما مع اعتبارات السرعة والرغبة فى إرضاء الجماهير، فإننى أختار العدالة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved