الخاسر الأكبر فى حروبنا الأهلية

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الثلاثاء 2 أغسطس 2011 - 9:14 ص بتوقيت القاهرة

 لا أكاد أرى نهاية للحرب الأهلية الباردة المستعرة منذ نحو خمسين عاما بين العلمانيين والإسلاميين، وإنما أزعم أن أوارها اشتد هذه الأيام التى يتطلع فيها الجميع إلى مستقبل جديد. كما أنى لا أرى فى هذه المعركة منتصرا أو مهزوما، لكنى أقطع بأن الوطن سيكون الخاسر الأكبر فى كل الأحوال.


(1)

لا أتحدث عن مصر وحدها. رغم أنها تظل الساحة الأكبر التى تدور على أرضها تلك الحرب البائسة. لأن الاحتراب الحاصل هنا حاصل بذات القدر من الشراسة فى تونس، وله إرهاصاته فى سوريا واليمن. أعنى أنه فى المجتمعات التى ارتفع فيها صوت الشعوب، وأسقطت أو اهتزت فيها دعائم الأنظمة الاستبدادية، فإن باب الحديث حول خيارات المستقبل وبدائله انفتح على مصراعيه. وتم استدعاء ذلك الحديث حين ظهرت فى الساحة الجماعات الإسلامية باختلاف مسمياتها وشعاراتها، وأثبتت حضورا وأحدثت ضجيجا لافتا للانظار. وهى التى حجبت عن الأنظار خلال العقود التى خلت وتوزع أعضاؤها بين السراديب غير المرئية والسجون والمنافى. وطوال سنوات الاحتجاب كان هجاؤهم هو الخطاب الوحيد المعتمد. كما أن الساحة ظلت حكرا على غيرهم من المنتمين إلى التيارات السياسية والفكرية الأخرى. حتى صار الاستثناء أصلا والأصل استثناء مستغربا!

فى السابق كانت الشعوب مكممة والمجتمع مؤمما وكانت أجهزة السلطة تقود المعركة ضد الإسلاميين ومن ورائهم شريحة واسعة من المثقفين، وكانت تهمة الإرهاب تلاحق كل المنتمين إلى التيار الإسلامى. لكن الوضع اختلف الآن، فقد انكشف الغطاء ورفعت الوصاية وأتيحت الفرصة أمام الجميع لكى يعرضوا أنفسهم على الملأ، ولم تعد هناك قيود على حق الجماعات الإسلامية فى المشاركة السياسية، شأنهم فى ذلك شأن بقية البشر، من الأمور التى تغيرت أيضا أن السلطة لم تعد هى التى تقود المعركة ضدهم والمثقفون العلمانيون من ورائها. وإنما أصبح أولئك المثقفون هم الذين يقودن المعركة ويحاولون أن يجروّا السلطة من ورائهم. ثم إن موضوع الاتهام أو الهجاء اختلف بدوره. إذ لم يعد القلق من الأعمال الإرهابية، ومن انشطتهم الدعوية سبب الهجاء. لأن السقف ارتفع كثيرا، فى مصر على الأقل. إذ جرى التخويف من حصولهم على الأغلبية فى المجلس التشريعى ومن توهم تحكمهم فى صياغة الدستور الجديد، ومن احتمال توليهم السلطة فى مراتبها العليا، خصوصا ان ثلاثة من الإسلاميين رشحوا أنفسهم لرئاسة الجمهورية.

ظهور فصائل التيار الإسلامى بكثافة وبصورة شرعية فى الساحة وتقدمهم صوب المشاركة السياسية اعتبره الآخرون خطرا وجوديا يهددهم، لذلك فإنهم صعدوا من وتيرة الحرب ضدهم، واستخدموا لاجل ذلك كل وسائل التعبئة والتحريض التى صوبت السهام نحو هدفين، أحدهما ممارسات الإسلاميين وخطابهم والثانى محاصرة الإسلام ذاته ونقد تعاليمه. وقد حفلت الصحف المصرية طوال الأشهر الأخيرة بسيل من المقالات التى كثفت من الهجوم على هاتين الساحتين. وهو ما يسوغ لنا أن نقول بأن الفزاعة التى استخدمت للتخويف من الإسلام فى ظل النظام السابق، هى ذاتها التى استخدمت بعد سقوط ذلك النظام. وإذا كانت الدوافع إلى ذلك قد اختلفت، إلا أن هدف الإقصاء والاستئصال ظل واحدا.


(2)

لا أحد ينكر أن الثقة معدومة بين الطرفين، وأن حملة التفزيع حققت نجاحا مشهودا فى تخويف قطاعات واسعة من المواطنين من الإسلاميين. وثمة تفرقة بين مشاعر الخوف التى تنتاب البعض، ومنهم وطنيون ومتدينون. وبين الخصومة التى ينطلق منها أغلب العلمانيين. وخوف الأولين ناشئ عن سوء الفهم. أما خصومة الأخيرين فهى تنطلق من سوء الظن بالآخر، وبين الافراط فى إحسان الظن بالذات. وهذه النقطة الأخيرة تحتاج إلى تحرير.

فالعلمانيون يعانون من مشاكل عدة فى قراءتهم للإسلام ونظرتهم إلى الإسلاميين. فهم عادة يقارنون بين أفضل ما فى العلمانية وبين اسوأ ما هو منسوب إلى الإسلام. وذلك خطأ منهجى كبير، دفعهم إلى نسبة كل القيم الايجابية إلى العلمانية دون غيرها. فهى تعنى الحرية والديمقراطية والليبرالية ومدنية المجتمع.. الخ. مع ان ذلك بدوره خطأ علمى ومعرفى، إذ ليس صحيحا أن كل تلك القيم حكرا على العلمانية، وإنما هى قيم إنسانية يمكن أن توجد فى ظل الإسلام أيضا. إذ بوسع المرء أن يكون مسلما وليبراليا وديمقراطيا فى ذات الوقت. ثم إنه ليس هناك تلازم ضرورى بين العلمانية وبين تلك القيم، يؤيد ذلك أن النظامين فى تونس (قبل السقوط) وسوريا لهما انحيازهما الواضح للعلمانية.

الخطأ الثانى الذى يقع فيه العلمانيون أنهم لا يعترفون بالتمايزات الحاصلة فى الساحة الإسلامية، ويعممون شطحات واخطاء البعض على الجميع، ولذلك فإنهم يتحدثون فى أغلب الأحوال عن «القوى الدينية» فى مجملها، ولا ينسبون الخطأ إلى فاعله.

الخطأ الثالث أنهم يتجاهلون التطور الكبير الحاصل فى ساحة الفكر السياسى الإسلامى خلال العقود الثلاثة الأخيرة، الذى يمثل نقلة مهمة للغاية باتجاه التفاعل مع القيم الديمقراطية والتعايش مع الآخر. وأكثر كتابهم يؤثرون الاستناد فى المحاججة والتراشق الفكرى إلى الممارسات السلبية التى تتسم بالشذوذ وتنسب إلى آحاد الناس. الأمر الذى تفوح منه رائحة الاصطياد والتربص. بما يستبعد الرغبة فى الحوار البناء والجاد.

ومن المفارقات فى هذا الصدد أن ذلك التطور الذى أثير إليه مرصود بدقة فى الأوساط الاكاديمية الغربية بأكثر من رصده فى أوساط المثقفين العرب. تشهد بذلك كتابات ريموند وليم بيكر مؤلف كتاب «إسلام بلا خوف»، وجون اسبوزيتو فى كتابه «أصوات الإسلام المعاصر» وجراهام فوللر فى كتابيه «عالم بلا إسلام» و«مستقبل الإسلام السياسى».


(3)

التيار الإسلامى أيضا له أكثر من مشكلة. إحداها أنه بدوره يدين كل أطروحات الطرف الآخر. فلا يميز مثلا بين علمانية مخاصمة ومعادية للدين (كما فى فرنسا) وأخرى متصالحة معه (كما فى إنجلترا حيث تتولى الملكة رئاسة الكنيسة). وهذا الالتباس حاصل أيضا فى فهم مصطلح الليبرالية الذى يحتمل تأويلات عدة، تتراوح بين حرية الرأى والتسامح مع الآخر، وبين الدفاع عن الشذوذ الجنسى. المشكلة الأخرى أن ساحة ذلك التيار تزدحم بالأصوات والرؤى المتعددة. (للعلم عقد اجتماع فى مقر رابطة الجامعات الإسلامية قبل أيام لممثلى الأحزاب الإسلامية الذين بلغ عددهم 17 شخصا يمثلون أحزابا بعضها تم إشهاره (اثنان فقط هما حزب الحرية والعدالة المتفرع عن الإخوان والثانى حزب النور السلفى). أما الباقون فكانوا يمثلون أحزابا تحت التأسيس. وبسبب تعدد الأصوات واختلاف الرؤى، فإن الآراء التى تعبر عنها تلك الأحزاب تتراوح بين الاعتدال والشطط والتشدد. من ثم فليس مستغربا أن نجد بينها من يؤمن بالديمقراطية ويدافع عنها ومنها من يكفر الديمقراطية والعلمانية. والحاصل أن المتصيدين والمتربصين يسلطون الضوء على الأخيرين على قلتهم ويتجاهلون الأولين.

المشكلة الثالثة التى تعانى منها الأحزاب الإسلامية أنها جميعا حديثة العهد بالعمل فى ظل الشرعية والنور. وإذا كان وضع الإخوان المسلمين (المحظورين) أفضل بصورة نسبية، فإن الآخرين جميعا كانوا يتحركون فى الظلام، سواء كانوا محجوبين أو محبوسين، وظلوا طوال الوقت يحدثون أنفسهم أو جماعتهم. إلا أنهم منذ أشهر قليلة ولأول مرة فى تاريخهم خرجوا إلى النور وبدأوا فى مخاطبة الرأى العام. ولذلك فليس مستغربا ألا يحسنوا مخاطبة الناس، وألا يبالى بعضهم بتخويفهم أو تخوينهم أو تكفيرهم. وسوف يحتاجون إلى بعض الوقت لانضاج أفكارهم وتهذيب خطابهم وإحسان تواصلهم مع المجتمع الذى لم يتعاملوا معه من قبل.

المشكلة الرابعة أن النخب التى اعتادت ان تتبنى خطاب اقصاء الإسلاميين لاتزال تتعامل معهم بدرجات متفاوتة من الازدراء والاستعلاء، وان الذين يلقنونا دروسا فى احترام الآخر ينكرون على الإسلاميين حقهم فى الكرامة والاحترام. وهو قول يسرى بحق العلمانيين أيضا، الذين يستسهل بعض الإسلاميين تجريحهم والطعن فيهم. الأمر الذى يعنى أن قيمة احترام الآخر المخالف لم تترسخ بعد فمن منظومة القيم الحاكمة لعلاقات الطرفين.


(4)

يوم الأحد 17/7 عقد فى دمشق المؤتمر العلمانى الأول، الذى رفع شعار «العلمانية هى الحل»، حيث ارتأى بيانه أنها الصيغة الوحيدة لقيادة المرحلة المقبلة، ولا استبعد أن يكون ترتيب عقد المؤتمر له صلة بأجواء الاضطرابات الحاصلة فى سوريا، التى يؤيدها الإخوان المعارضون للنظام. وفى تونس احتشد العلمانيون فيما سمح بالتجمع الديمقراطى لمنازلة ومنافسة حركة النهضة الإسلامية فى الانتخابات التشريعية القادمة. وفى مصر احتشاد مماثل يحاول أن يرص صفوف العلمانيين والمتوجسين لمواجهة التيارات الإسلامية. وهذا ما عبرت عنه بعض الوثائق التى أعلنت مؤخرا. واجتمع لإعدادها نفر من هؤلاء. تحت شعار حماية الدولة المدنية من تغول المد الدينى.

حين يحدث هذا التحرك فى مصر بالذات فإنه يصبح بالغ الضرر وشديد الخطورة. وحين أشير إلى مصر فإننى أنبه إلى اننا نتحدث عن بلد يمثل الدين فيه قيمة عظمى، لدى المسلمين والأقباط، وحين يشيع بين المسلمين الذين يمثلون 94٪ من السكان ان ثمة تجمعا كان علو صوته وضجيجه أو بريقه الإعلامى يريد اقصاء الإسلام أو إضعافه فى البلد، فإن ذلك يعد بمثابة انتحار سياسى للذين أقاموا ذلك التجمع. ليس فقط لأنه يخل باستحقاقات السلم الأهلى، ولكن أيضا لأننا مقبلون على انتخابات تشريعية تفرض على الجميع أن يعملوا حسابا لمشاعر الناس وأصواتهم.

من ناحية أخرى، فإن من شأن استمرار التعبئة المضادة أن يعزز من مكانة ودور جماعات التشدد الإسلامى، الأمر الذى يجعل مهمة قوى الاعتدال أكثر صعوبة. ومن خبرة ذاتية لم أكن الوحيد الذى مررت بها، فإن هناك حجة لا تخلو من منطق يرددها باستمرار كثيرون من المنتمين إلى تيار التشدد، خلاصتها كما يلى: كيف تدعوننا إلى القبول بالآخر ومد اليد للتفاعل معه فى حين أن خطابهم يتراوح بين الاقصاء والاستئصال؟

لا مفر من الاعتراف بأن ثمة شريحة تتوزع على الجانبين لا أمل فيها ولا رجاء منها. إذ يرفض كل منهما وجود الآخر ويكفره أما بالدين أو بالديمقراطية. ذلك أن التفكير ليس مقصورا على الإسلاميين وحدهم، فالتكفير بالتعاليم يقابله تكفير آخر بقيم الديمقراطية.

وإذ أذكر بأن ثمة قطاعا واسعا من الناس الحائرين، يمثلون الشريحة الأكبر فى المجتمع لا ينتمون إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. وهم يريدون أن يعيشوا فى سلام وأمان مع دينهم ودنياهم، فإننى لا أجد حلا لتلك المشكلة ولا نهاية لتلك الحرب الأهلية الباردة والبائسة سوى أن يخاطب العقلاء والمعتدلون بعضهم بعضا على قاعدة من شقين أولهما الاعتراف وثانيهما الاحترام. لكننا فى الأجواء الساخنة التى يسودها الانفعال فى الوقت الراهن نجد صعوبة فى العثور على أمثال هؤلاء، ليس لأنهم غير موجودين، ولكن لأن منابر المتطرفين أكثر وأصواتهم أعلا وضجيجهم يكاد يسد الأفق، مع ذلك فينبغى ألا نفقد الأمل، وعزاؤنا فى ذلك أنه لا يصح إلا الصحيح فى نهاية المطاف. وهو ما نتمنى أن ندركه فى حياتنا التى لم يبق منها الكثير.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved