الاقتصاد السياسي للاتفاق التجاري الأوروبي - الأمريكي

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: السبت 2 أغسطس 2025 - 9:00 م بتوقيت القاهرة

الاقتصاد السياسى هو المجال الذى تتفاعل فيه العوامل الاقتصادية والسياسية لتُفرِز سياسات تعكس وزن كل مجموعة من هذه العوامل، وتُثمر توزيعا لنتائجها يتفق ووزن هذه وتلك أيضا. العوامل السياسية تؤثر فى تشكيل النُّظُم والترتيبات والسياسات الاقتصادية، والعوامل الاقتصادية تؤثر فى السلوك وفى تشكيل النظم السياسية. دارسو الاقتصاد السياسى لظاهرة ما يعنون بالتاريخ والثقافة والأعراف المشكلة لبيئتها.
هذه المقدمة يستدعيها مقال هذا الأسبوع، وهو عن الاتفاق التجارى الذى توصل إليه يوم 27 يوليو الماضى كل من الرئيس الأمريكى دونالد ترامب ورئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبى أورسولا فون دير لاين.
لم يرَ أحدٌ اتفاقا مكتوبا بعد، ولكن الطرفين الأمريكى والأوروبى أعلنا أنهما اتفقا على أن تفرض الولايات المتحدة رسوما جمركية تبلغ 15 فى المائة من قيمة أغلب السلع الأوروبية المستوردة إلى السوق الأمريكية، مع إعفاء الطائرات، وقطع غيار الطائرات، وبعض المنتجات الكيميائية والزراعية، والمواد الأولية «الحرجة» من أى رسوم، والاستمرار فى فرض رسوم تبلغ خمسين فى المائة على واردات الحديد والصلب الأوروبية.
فى المقابل، تعهدت المفوضية بأن تنفتح السوق الأوروبية أمام السلع الأمريكية بلا أى رسوم جمركية تُفرض عليها. يُضاف إلى ما سبق أن المفوضية الأوروبية تعهدت بمقتضى الاتفاق بأن يشترى الاتحاد الأوروبى فى السنوات الثلاث القادمة منتجات طاقة أمريكية بما قيمته 750 مليار دولار أمريكى، وأن يستثمر الاتحاد 600 مليار دولار أمريكى فى الولايات المتحدة، علاوة على شراء أسلحة أمريكية بمئات المليارات من الدولارات.
الرئيس الأمريكى عدّ الاتفاق إنجازا كبيرا تفاخر به، فهو يشكو من العجز فى الميزان السلعى مع الاتحاد الأوروبى، وهو عجز بلغ 156 مليار دولار فى عام 2023، وإن كان قد ذكر أنه سكت عن 108 مليارات دولار فائضا فى ميزان الخدمات حققته بلاده.
اغتباط الرئيس الأمريكى بالاتفاق يرجع إلى أنه يسهم فى تحقيق هدفين له، ألا وهما: المساهمة فى سد العجز فى الميزانية الأمريكية، وحماية فرص العمل فى الصناعات القديمة الموجودة فى ولايات متأرجحة انتخابيا، كصناعتى السيارات والصلب.
جدير بالذكر أن التعريفات الجمركية التى فرضها الرئيس الأمريكى منذ بداية فترة رئاسته فى يناير الماضى أثمرت إيرادات للميزانية الأمريكية فاقت بمائة مليار دولار تلك الناشئة عن الرسوم خلال الشهور الستة الأولى من العام الفائت.
للاتفاق الأوروبى - الأمريكى منطق اقتصادى، ولكن له أيضا أبعادا ومنطقا سياسيا.
• • •
من منطق اقتصادى بحت جاء الارتياح الذى عبّرت عنه رئيسة المفوضية الأوروبية وعدد من قادة الدول الأوروبيين. السيدة فون دير لاين شددت على أن الاتفاق يتفادى نسبة الرسوم التى تبلغ 30 فى المائة، والتى هدد الرئيس الأمريكى بفرضها فى الأول من أغسطس إن لم يتوصل الطرفان إلى اتفاق، وهى نسبة لا تستطيع الشركات الأوروبية أن تتعايش معها، وكان من شأنها أن تنهار الصادرات الأوروبية إلى السوق الأمريكية.
الاعتبار الاقتصادى الثانى هو أن الاتفاق يُمكِّن الفاعلين الاقتصاديين الأوروبيين من توقُّع سلوك نظرائهم الأمريكيين، والقدرة على التوقع حيوية لعمل السوق، بل ولأى نظام سياسى أو اقتصادى أو اجتماعى.
غير أن للاتفاق الأوروبى - الأمريكى أبعادا سياسية، وله محددات وآثار جلية ذات طبيعة سياسية. الأبعاد السياسية تبدأ من داخل الاتحاد الأوروبى نفسه، فقد اختلف قادة الاتحاد الأوروبى فى مواقفهم من الاتفاق المُعلن عنه.
الاعتباران الاقتصاديان المذكوران يفسران مواقف قادة ألمانيا وإيطاليا وأيرلندا، الذين عبّروا عن رضاهم عن التوصل إلى الاتفاق، فدولهم صدّرت سلعا بقيم معتبرة إلى السوق الأمريكية فى سنة 2024، وإن كان المستشار الألمانى قد ذكر أن مالية بلاده ستتأثر بشكل ملموس بالاتفاق.
فى حالتى ألمانيا وإيطاليا، ليست المحددات السياسية لموقفى قادتى البلدين غائبة، وهو ما سنرجع إليه لاحقا. قادة الدول القريبة جغرافيا من روسيا مالوا، مثل فنلندا، وبشكل لافت رومانيا، إلى الارتياح للاتفاق، بل وإلى الترحيب به فى الحالة الأخيرة.
فى المقابل، قدّر رئيس الوزراء الإسبانى جهود المفوضية الأوروبية ورئيستها، إلا أنه استقبل الاتفاق من دون حماس. أما رئيس الوزراء الفرنسى فكان الأكثر حدةً فى انتقاده للاتفاق، فقد اعتبر يوم التوصل إليه «يوما أسود» رضى فيه الاتحاد الأوروبى بالخضوع للولايات المتحدة.
الخلافات بشأن الاتفاق بين الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى جعلت المفوضية تعلن، بما فى ذلك على لسان مفوضها المعنى بالتجارة، أن الاتفاق غير ملزم قانونيا، وأنه مجرد مجموعة من التعهدات السياسية.
بمقتضى النظام الدستورى للاتحاد الأوروبى، فإن أى اتفاقية دولية ملزمة للاتحاد ولدوله الأعضاء لا بد أن يُصادق عليها البرلمان الأوروبى وبرلمانات كل الدول الأعضاء فيه. فإن رفض برلمان واحد التصديق على الاتفاقية المعنية، سقطت الاتفاقية وأصبحت والعدم سواء.
من شأن هذا السقوط أن يعرّض العلاقات التجارية الأمريكية الأوروبية للخطر، وهو ما تود المفوضية ورئيستها تفاديه.
غير أن التنفيذ الكامل «للتعهدات السياسية» ليس مكفولا مع ذلك.
فالمفوضية لها الاختصاص وحدها فى التفاوض نيابةً عن الاتحاد الأوروبى فى شئون التجارة، فإن وافقت الدول الأعضاء على أى اتفاق تتوصل إليه، كان للمفوضية أن تنفذه وأن تراقب تنفيذ الدول الأعضاء له.
ولكن ليس للمفوضية علاقة بشراء الدول الأعضاء لمنتجات الطاقة الأمريكية، ولا بقرارات المستثمرين الأوروبيين بالاستثمار فى السوق الأمريكية أو عدمه، ولا بشراء الأسلحة الأمريكية.
• • •
يبدو أن الحرص السياسى للمفوضية ولرئيستها على خطب ودّ الرئيس الأمريكى، وعلى تفادى تعريفاته الجمركية، هو الذى جعلها تصل إلى هذا الاتفاق الفضفاض.
المفوض الأوروبى المذكور أضاف تبريرا سياسيا للاتفاق ذا دلالة دامغة، ألا وهو «الاعتبارات الأمنية للحفاظ على علاقات تجارية ودية مع الولايات المتحدة فى إطار الحرب فى أوكرانيا»، مردفا أن «لتأمين التوافق بين الولايات المتحدة وأوروبا بشأن المسائل الجيوبوليتيكية الجارية ثمنا إضافيا».
لا يمكن أن يوجد إعلان أكثر صراحةً فى التعبير عن الدافع السياسى للوصول إلى الاتفاق التجارى الأوروبى - الأمريكى.
بعدٌ سياسى آخر يثيره عدم الإصرار على الالتزام بميثاق الاستقرار والنمو للاتحاد الأوروبى المعتمد فى سنة 1997، والذى طرأت عليه عدة تعديلات فيما بعد.
يهدف الميثاق إلى تحقيق الاستقرار المالى للدول الأعضاء، وإلى تمكينها من تحقيق النمو الاقتصادى المستدام، وهو ينص على ألّا يتعدى العجز فى ميزانية أى من الدول الأعضاء 3 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى، وألا تزيد مديونيتها على 60 فى المائة من هذا الناتج.
تُفرض غرامة على الدولة العضو التى تنتهك أيا من هاتين القاعدتين.
العجز المخطط له فى الميزانية الألمانية لسنة 2025 يبلغ 3.3 فى المائة من الناتج المحلى الألمانى، ومع ذلك، فقد اعتبرت مصادر فى المفوضية أنه لا مجال لفرض غرامة على ألمانيا لأن العجز راجع إلى زيادة الإنفاق العسكرى، وهو عجز قررت ألمانيا أن يستمر إلى سنة 2027 حتى يصل إنفاقها العسكرى إلى نسبة 5 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى بحلول سنة 2035، وهى النسبة التى قررها حلف شمال الأطلسى لدوله الأعضاء نتيجة دعوة الولايات المتحدة الدول الأوروبية إلى زيادة إنفاقها العسكرى لتشاركها فى الدفاع عن قارتها.
هكذا نصل إلى الربط بين الاتفاق التجارى، وموقف الدول الأعضاء القريبة جغرافيا من روسيا، والإنفاق العسكرى، وإرضاء الولايات المتحدة، والإبقاء على قواتها فى أوروبا والدفاع عنها.
هنا يبرز الدافع السياسى لرضا ألمانيا عن الاتفاق المشار إليه أعلاه، وهو أنها حريصة على بقاء الولايات المتحدة فى أوروبا، والواقع أن هذا الحرص ليس فقط من أجل الدفاع عن القارة، وإنما كذلك حتى تطمئن دول القارة إلى عدم استيقاظ العداوات القديمة فيما بينها، وهو ما يسمح لألمانيا بأن تزدهر مصالحها الاقتصادية فى شرق ووسط القارة على وجه الخصوص.
أما الدافع السياسى لرئيسة وزراء إيطاليا المشار إليه أعلاه أيضا، فهو ليس إلا التعاضد بين التيارات الشعبوية من أقصى اليمين على ضفتى المحيط الأطلسى.
الاتفاق التجارى الأوروبى - الأمريكى اقتصادى وسياسى، يرتبط باعتبارات أمنية جلية. الاتحاد الأوروبى سيستفيد من الإبقاء على صادراته إلى السوق الأمريكية، وهو فى المقابل ينقل موارد أكثر من تلك التى اعتاد على نقلها إلى الولايات المتحدة، على شكل تحمله جانبا من تكلفة الرسوم الجمركية، وشراء منتجات الطاقة الأمريكية، واستثمارات، وشراء للأسلحة الأمريكية. نقل الموارد فى مقابل الإبقاء على الالتزام الأمريكى بالأمن الأوروبى.
الشك مشروع فى استدامة تطبيق الاتفاق التجارى بالتوازى مع زيادة الإنفاق العسكرى.
فضلًا عن آثارهما الاقتصادية، فإن نقل الموارد المترتب عليهما لا بدّ أن يُرتب آثارا اجتماعية خطيرة نتيجةً لإعادة هيكلة الإنفاق العام بعيدا عمّا تتطلبه دولة الرفاه التى اعتادتها الشعوب الأوروبية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved