النظام الإسرائيلي يرتكب إبادة جماعية

من الصحافة الإسرائيلية
من الصحافة الإسرائيلية

آخر تحديث: السبت 2 أغسطس 2025 - 9:15 م بتوقيت القاهرة

السؤال المُلح الذى يطاردنا: «هل يمكن أن يكون هذا ما يحدث فعلا؟» بينما يعرف الملايين حول العالم الإجابة، لا نزال هنا نجد صعوبة فى الإجابة عنه. ربما لأن الحقيقة تهدد الأسس التى بنينا عليها تصورنا لأنفسنا، ومَن أردنا أن نكون، ولأنها تجبرنا على مواجهة أمور صعبة للغاية تتعلق بالمستقبل. لكن ثمن العمى أعلى كثيرا من ثمن الاعتراف بالحقيقة.

إن مصطلح «إبادة جماعية» يصف حدثا يصعب استيعابه. بالنسبة إلى الإسرائيليين من جيلنا، هو كابوس بعيد، شىء من زمان ومكان آخر، ظاهرة تحدث على كوكب آخر. كلّ مَن نشأ فى ظل المحرقة سأل نفسه مرة واحدة فى حياته على الأقل: كيف واصل الناس العاديون حياتهم، وسمحوا بحدوث ذلك. ضمن هذا التطور التاريخى المرعب، نحن الذين نعيش هنا مُجبرون على الإجابة عن هذا السؤال.
• • •
منذ نحو عامين، نسمع ممثلينا وكبار مسئولينا العسكريين وهم يطالبون بتجويع غزة وإبادتها وتدميرها والانتقام منها. ومنذ البداية، قالوا إن هذا ما ينوون فعله، ثم أرسلوا الجيش إلى هناك وقادوه للقيام بذلك. وفى القانون، هذا هو تعريف الإبادة الجماعية: هجوم منسّق ومتعمّد على أفراد ينتمون إلى جماعة معينة، ليس بسبب هويتهم، أو ما فعلوه كأفراد، بل بقصد تدمير جماعتهم. لكننا لم ننجح فى الإصغاء إلى ما قيل علنا وبصراحة، وروينا لأنفسنا قصة تساعد أرواحنا على تحمُّل الفظائع كى لا نضطر إلى تحمُّل مسئوليتها، وتبعد عنا الشعور بالذنب والألم. لقد أصبحنا مثل هؤلاء الناس العاديين الذين يواصلون حياتهم ويتركون «هذا الأمر» يحدث.
أحاول أن أتذكر متى كانت اللحظة الأولى التى شعرت فيها أن شيئا ما قد تغيّر فى الواقع، وأننا أصبحنا فى عالم آخر. أعتقد أن هذا حدث بعد شهرين من بداية ما كنت لا أزال أسمّيها «حربا» حينها. كان ثلاثة من موظفى منظمة «بتسيلم» وعائلاتهم داخل قطاع غزة فى ذلك الوقت. هؤلاء أشخاص يعملون فى المنظمة منذ أعوام، هم شركاء حقيقيون، ومدافعون من الطراز الأول عن حقوق الإنسان، وقد رووا لى عن أقارب مدفونين تحت الأنقاض، وعن عجز كامل فى حماية أطفالهم، وعن الخوف الذى يشلّ.
منذ ذلك الحين، بدأت سلسلة أحداث قد تُروى يوما ما، وربما لا تُروى، لأنها «عادية»، فهى مجرد قصة ثلاثة أشخاص من بين ملايين، حالفهم الحظ ونجوا من الجحيم. لكن تحديدا، المحاولات التى يصعب تخيُّلها من أجل إنقاذ أبرياء من الموت، فى مقابل فدية نقدية لقاء كل رأس (فى تلك الأيام، كانت حياة الفلسطينى تُقدّر بنحو 20 ألف شيكل، أمّا الأطفال، فكانوا «يكلفون» أقل) هى التى جعلتنى أدرك أن القواعد قد تغيّرت.
تلك كانت المرة الأولى. ومنذ ذلك الحين، ينتابنى هذا الشعور، مرارا وتكرارا - ذكريات من عوالم أُخرى لم أكن فيها، لكننى سمعت عنها. قصص من أماكن انمحت فيها الإنسانية، حيث يُترك البشر مكشوفين ومُهملين. وخطوط حمراء تُجتاز، المرة تلو المرة؛ لحظات يتحول فيها اللامعقول إلى واقع. فحدث كل شىء لم نكن نعتقد أنه سيحدث: مقتل عشرات الآلاف، تهجير قسرى جماعى، ثم مرة أُخرى، ومرة أُخرى. مدن كاملة تحولت إلى أنقاض، مبانٍ انهارت على ساكنيها، تجويع، سحق أحلام المستقبل، ومحو شبه كامل للأمل. والأطفال. يا إلهـى، كم من الأطفال. كم عدد الأطفال.
لا يمكن أن تحدث الإبادة الجماعية من دون جمهور واسع يدعمها، أو يغضّ الطرف عنها. وهذا جزء من الإبادة الجماعية، لا توجد أمة ارتكبت إبادة جماعية وكانت تدرك، حينها، معنى أفعالها. دائما، كان يُنظر إلى الأمر كأنه دفاع عن النفس، أو ضرورة، أو شىء جلبه الضحايا «لأنفسهم».
• • •
تقول السردية السائدة فى إسرائيل إن كل شىء بدأ فى 7 أكتوبر، فى ذلك الهجوم المروّع الذى تلاه، كما يُزعم أن كل ما يحدث فى غزة ضرورى ومبرَّر من أجل حماية إسرائيل. لا يجوز، ولا يمكن التقليل من فظاعة هجوم «حماس» على مستوطنات غلاف غزة فى ذلك اليوم. كان هجوما «إجراميا» استهدف المدنيين، فى معظمه. لقد تعرّض مجتمع كامل لصدمة كبيرة مرعبة، ولّدت شعورا عميقا وفوريا بتهديد وجودى.
لكن على الرغم من أن 7 أكتوبر كان دافعا مهما، كان هناك شروط سابقة ضرورية أتاحت وقوع الإبادة الجماعية؛ وذلك لكى نصبح مجتمعا قادرا على محو إنسانية الآخرين إلى درجة نفقد فيها كل قدرة على التعاطف، ولكى نقنع أنفسنا بأن كل رضيع هو «حماس»، وكل منزل عائلة هو «خلية إرهابية». ولكى نصبح مجتمعا يرتكب إبادة جماعية، كان هناك حاجة إلى عشرات السنين من العيش فى ظلّ نظام أبارتهايد واحتلال، وُضعت خلالها الأسس السياسية والنفسية للتفوق، والقمع، والانفصال والخوف.
لقد عشنا بشكل منفصل أعواما- الإسرائيليون والفلسطينيون- لأنهم علمونا أن هذه هى الطريقة الوحيدة للعيش هنا. خلال العقود الأخيرة، تجسدت ذروة هذا الانفصال فى الإغلاق الكامل لقطاع غزة. سكان غزة، البشر الذين يعيشون هناك، لقد جرى نبذ سكان غزة فى الوعى الإسرائيلى. هم الأشخاص الذين يمكن قصفهم كل عدة أعوام من دون تمييز، وقتل المئات، أو الآلاف منهم، من دون محاسبة أحد. كنا نعرف أن ملايين البشر فى غزة يعيشون تحت الحصار، وكنا نعرف عن «حماس»، ونعرف مَن يموّلها، حتى إننا رأينا صور الأنفاق، بأثر رجعى، كنا نعرف كل شىء، باستثناء شىء واحد فقط لم نحسب له حسابا، هو أنهم سينجحون فى اختراق الجدار ويصلون إلينا.
لم يكن 7 أكتوبر فقط فشلا عسكريا فى حماية المدنيين الإسرائيليين. لقد كان، قبل كل شىء، فشلا اجتماعيا، وعلى صعيد الوعى، لكل مَن فضّل أن يعتقد أنه يمكن احتواء العنف والقمع فى جانب واحد من الجدار، وأن نواصل نحن حياتنا بهدوء نسبى فى الجانب الآخر. حدث هذا الانهيار بينما تحكم إسرائيل أكثر الحكومات يمينيةً وتطرّفا فى تاريخها، وتضم أشخاصا يعتبرون تدمير غزة تحقيقا لرؤية تاريخية. وهكذا، فى أكتوبر 2023، اصطفت كل الكوابيس فى خط واحد.
• • •
لكى نقف فى وجه الإبادة الجماعية ونكافحها، يجب أن نفهمها. يوجد قسمان فى التقرير الذى نشرناه هذا الأسبوع فى منظمة «بتسيلم»، بشأن الإبادة الجماعية التى تُنفَّذ باسمنا؛ الأول يشرح كيف تُنفَّذ الإبادة، من خلال ممارسات القتل الجماعى، وتدمير مقومات الحياة، والتفكيك الاجتماعى، والتجويع - وهذا كله مدعوم بتحريض واسع على الإبادة الجماعية فى الخطاب الإسرائيلى العام. فى الجزء الثانى، نصِف كيف نشأت الشروط التى سمحت بتحوّل النظام الإسرائيلى إلى نظام إبادة جماعية.
أنجز هذا التحليل فلسطينيون ويهود - إسرائيليون معا. وقد تطلّب منا أن نرى الواقع برؤية مشتركة. وفى هذا الواقع المشترك، يوجد تاريخ، وتوجد صدمة وطنية يهودية، وهناك أيضا 7 أكتوبر، وهذه الحقائق كلها لا تنفى حقائق أخرى يصعب تحمُّلها، لكنها موجودة ويجب مواجهتها. مثل حقيقة أن الفلسطينيين، كجماعة، كانوا دائما رعايا من الدرجة الدنيا فى ظل النظام الإسرائيلى. صُنّف بعضهم كمواطنين تمتعوا ببعض الحقوق أكثر من غيرهم، وبعضهم الآخر حصل على حقوق أقل، وبعضهم تُرك بلا حماية أمام عنف لا يتوقف. لا يمكننا أن نواصل النظر إلى الواقع من خلال السردية الكاذبة التى أوصلتنا إلى هنا، سردية الفصل، وحرب لا تنتهى، وشعب يعيش وحده.
إن الإبادة الجماعية، بصفتها هجوما على الإنسانية نفسها، تفرض علينا أن ننظر إلى الواقع من منظور إنسانى، وأن نكافح معا من أجل معنى أن نكون بشرا. أن نعترف بأن هذه قصتنا، نحن أبناء هذا المكان. قصة طويلة ومعقدة ومؤلمة وتنزف؛ الآن، وصلت إلى لحظة متطرفة، إلى أعماق لم نكن نتصور أننا قد نصل إليها، ولا نعرف متى سنصل إلى القاع.
نحن أيضا، نشطاء «بتسيلم» - الذين ندافع عن حقوق الإنسان، الذين يعيشون، ويتعلمون، ويوثّقون منذ سنوات العنف الذى تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين - لم نكن نعتقد أن يأتى اليوم الذى نتناول فيه جريمة الإبادة الجماعية. خلال أشهر من البحث العميق، اختبرنا بأنفسنا كيف يرفض العقل تقبُّل الحقائق، كما لو كانت سما يسعى الجسد للفظه، لكننا نعلم الآن أن هذا السم هنا فعلا. وهو حقيقى، ويغمر الناس الذين يعيشون هنا، سواء أكانوا إسرائيليين، أم فلسطينيين، بالخوف والخسارة التى لا يمكن تصوُّرها.
• • •
النظام الإسرائيلى يرتكب إبادة جماعية. وبمجرد أن تترسخ هذه الحقيقة فى الوعى، نعرف ما هى الخطوة التالية. لقد فكرنا فى ذلك طوال حياتنا، فى كل مرة سألنا أنفسنا: «ماذا كنت سأفعل لو كنت هناك، فى ذاك الكوكب الآخر؟» ولهذا السؤال إجابة واحدة صحيحة فقط: كنت سأفعل كل ما فى وسعى لإيقاف الإبادة الجماعية.
هناك ظاهرة تحدث فى كواكب أُخرى. كل مَن نشأ فى ظل الهولوكوست سأل نفسه، على الأقل مرة فى حياته: كيف استمر الناس العاديون فى حياتهم وسمحوا بحدوث ذلك؟ وفى تطوّر مروّع للتاريخ، نحن اليوم، الأشخاص الذين يعيشون هنا، هم مَن يُطلب منهم الإجابة عن هذا السؤال.
يولي نوفاك
هاآرتس
مؤسسة الدراسات الفلسطينية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved