لبنان فى اضطرابه كصورة عن أزمة النظام العربى

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 2 سبتمبر 2015 - 7:30 ص بتوقيت القاهرة

ها هو لبنان يعود إلى الصفحات الأولى فى الصحف العربية، حيث تبقّت صحف، وإلى النشرات الإخبارية فى الفضائيات العربية والأجنبية المفروزة لمخاطبة الرأى العام العربى، فضلا عن وسائل التواصل الاجتماعى وبكثافة ملحوظة.

وها هى بيروت تعود لتحتل مكانتها كمدينة مشاغبة ترفع الصوت بالاعتراض أو بالاحتجاج والمناداة بالثورة على أوضاع مغلوطة يختلط فيها النهب المنظم مع هيمنة الزعامات الطائفية بنزعتها الحصرية لاحتكار «المكونات» بحيث ينتفى «المواطن» تماما ويتحول الشعب إلى «رعايا» لهذه القيادات التى لا تحول ولا تزول، لأنها محصنة بالغرائز الطائفية والمذهبية التى تجعل المطالبة بالتغيير مدخلا إلى الحرب الأهلية، خصوصا مع سيادة هذه المناخات فى المشرق جميعا.

سواء بوعى أم بالتداعى وتراكم الخيبات والمرارات، يستبطن هذا الحراك الشعبى فى لبنان مرارة الانكسار والخوف واغتيال الآمال التى علقها اللبنانيون على الشوق العظيم للتغيير الذى عبّرت عنه الجماهير التى تلاقت فى ميادين العواصم العربية، سواء أكانت مجاورة للبنان أم بعيدة عنه بالجغرافيا قريبة منه بالطموح والرغبة العارمة فى التغيير وفتح الطريق إلى الغد الأفضل.

«النفايات» كانت هى الصاعق: استفاق اللبنانيون ذات صباح فإذا «النفايات» تتكدس فى شوارع العاصمة، بيروت، والضواحى الجنوبية والشمالية والشرقية، أى حيث يعيش ويعمل أكثر من نصف الشعب اللبنانى وتتركز مقارّ مؤسسات الدولة؛ المجلس النيابى ومجلس الوزراء والوزارات المختلفة، ومبانى المصارف والشركات والبيوتات التجارية الكبرى، إلخ.

... والنفايات واحدة من الصفقات التجارية الكبرى بأرباحها الفاحشة، وهى صفقات تتلاقى فيها مصالح النافذين سياسيا مع رجال الأعمال ـ القطط السمان ـ والذين غالبا ما يمثلون شركات أجنبية ذات خبرات، والأهم أنها تتيح الفرصة لجنى الربح الحرام بلا مساءلة: كم يدفع المرء لتحاشى الاختناق بالنفايات وهى تسد عليه الطرق وتلوث الهواء الذى يتنفسه وتشعره ـ هو بالذات ـ أنه مجرد استثمار فى عيشه كما فى نفاياته، وأن مؤسسات دولته، بما فيها تلك التى يفترض أنه ينتخب مجالسها، لا تهتم لأمر صحته وأطفاله وتحول الحد الأدنى من الحياة المقبولة موضع استثمار سيدفع كلفته من رزق عياله؟

على أن بيروت التى يأخذ جماهيرها الغضب إلى الانتفاض ضد السلطة، خصوصا وأن «الدولة» فيها بمؤسساتها التشريعية (مجلس النواب المقفل منذ أن مدد النواب لأنفسهم آخر مرة أى قبل سنة ونصف السنة) والتنفيذية ـ الحكومة ـ التى يحكمها التوازن الطائفى الذى اختل اختلالا فاضحا بخلو قصر الرئاسة من رئيس للجمهورية نتيجة الخلافات السياسية ذات الشميم الطائفى والتى تستبطن الدول (عربية وغربية وشرقية).

بيروت هذه التى استكانت، كارهة، لخلو مواقع السلطة، بداية من رئيس الجمهورية، مرورا بإقفال مجلس النواب الذى يتقاضى أعضاؤه مرتباتهم ومخصصاتهم الممتازة ـ سيارة من دون جمارك، وأربعة مرافقين من رجال الأمن لكل منهم، غالبا ما ينتهون أقرب إلى موقع الخدم ـ وصولا إلى الحكومة التوافقية التى استولدت قيصريا، والتى يتحكم بمسارها النصاب الطائفى الذى ما أسهل أن يتحول إلى ابتزاز الفراغ فى السدة الرئاسية .

بيروت هذه تبدو الآن مشوقة إلى دور الطليعة، عربيا... وتحاول تخطى الحواجز الطائفية والمذهبية ـ التى طالما كانت ولاّدة زعامات متنابذة ولكنها متكاملة إذ تجمعها الشراكة فى المصالح ـ لكى يلعب شبابها دورا قياديا بالاضطرار، إذ تعوّدت فى الماضى البعيد أن يكون شارعها الصدى للخطاب القومى فى مصر (عهد جمال عبدالناصر) ثم للثورة الفلسطينية تطرفا حتى الوصول لأن تكون عاصمتها، ثم انساقت لأن تقارب دمشق حتى كادت تكون منها، قبل أن يتم تغييب سوريا بالحرب فيها وعليها، وقبل أن تغيّب العراق التشققات التى ضربت وحدة شعبه وهددت وجود دولته... فالقاهرة الآن مشغولة بهمومها الثقيلة وهى لاتزال تجتهد لاستعادة روحها وموقعها القيادى الذى لا بديل منها فيه، فضلا عن غياب بالرغبة أى بالقصد المقصود وتفضيل عواصم النفط العمل بالهمس واللمس وتحريك الشارع عن بُعد دفعا للتورط المكلف سياسيا.. ومفهوم أن عواصم أخرى تنتظر الإشارات من البعيد القادر متسائلة: هل جاء زمن التغيير؟! هل تم تقسيم المنطقة مجددا، كمناطق نفوذ، للأمريكيين الحصة العظمى ولإيران حصة محترمة، ولتركيا نصيب ما (قد يكون فى الأرض السورية؟) وللسعودية ـ كبديل من مصر أو بالشراكة معها ـ نصيب «العرب»؟

يكتب كثيرون ويخطب آخرون ويطل عبر برامج «التوك شو» التى صارت تحتل مساحات واسعة فى الفضائيات العربية متحدثون بارعون بالفصحى أو بالعامية يوزعون منطقتنا العربية حصصا للدول (كبديل مستحدث من سايكس ـ بيكو)، ثم يختمون تحليلاتهم العميقة باستنتاج حزين: لا نملك غير انتظار إتمام الصفقة التى عنوانها الاتفاق النووى الإيرانى، فى حين أن تفاصيلها تتصل بمستقبل دول المشرق العربى، بدءا من ساحل البحر الأبيض المتوسط وحتى اليمن على البحر الأحمر.

هل اندثر العرب؟! هل فقدت ملايينهم الكثيرة إرادتها وقدرتها على الفعل، وبات عليهم ـ مرة أخرى ـ أن ينتظروا ما تقرره الدول الكبرى أو المؤثرة حول مصيرهم كشعوب ومصائر بلادهم كدول (بغض النظر عن الفاشلة منها أو الناجحة..)؟!

هل سقطت رايات الوطنية والقومية والمطامح التقدمية و«المحافظة»، وبات علينا أن ننتظر، فقط ننتظر، ما تقرره لنا «الدول»؟!

ثم، هل بات قدرا على الشعوب العربية أن تتحول انتفاضاتها إلى مشاريع حرب أهلية، أو إلى مذابح فى الشوارع يرتكبها النظام ليقضى على «التمرد» فى مهده بذريعة مكافحة الشغب وحماية الاستقرار وتحصين الدولة التى هى ضمانة حياة لرعاياها، بغض النظر عن مستوى العيش فيها؟

****

طال الحديث عن لبنان، وعن بيروت التى لها فى ذهن العرب صورة العاصمة الملعونة، الممتعة، المتحررة، التى تتقدم على سائر العواصم العربية بكونها تجمع الشرق والغرب، النهوض الثقافى والفنى، المتعة والبهجة وحب الحياة حتى فى ضواحيها الفقيرة.. ثم... الديمقراطية، ولو شوهاء. يكفى أن الشاشات تعرض آراء قوى وأطراف وأحزاب وتنظيمات وشخصيات يختلفون فى تصوير الواقع، ويتباينون فى الاستنتاج إلى حد التناقض بل والتخاصم أحيانا. قد يكونون طائفيين أو موالين لزعامات طائفية ولكنهم يشتمون الطائفية والطائفيين.

بيروت مدينة الجامعات (التى يقارب عددها الإجمالى نحو خمسين جامعة، إذ تمّ الترخيص لثلاث جديدة أخيرا).. برغم أن واحدة منها قد تكون الأفقر هى «الجامعة الوطنية» أى التى أنشأتها وتتعهدها الدولة، والباقى تتوزعه جامعات خاصة، بينها الأمريكية والفرنسية، وبينها التى تتبع كنائس أو هيئات دينية (مسيحية وإسلامية)، وبينها التى يرتكز ترخيصها وتصدر شهاداتها عن الجامعة الأم، والتى قد تكون أميركية الجنسية، ولو فى جزر هاواى، أو فى بعض دول أوروبا، ولكنها «أهلية» بمعنى أنها جامعة خاصة ولا تتبع للدولة..

فى الثلاثينيات وحتى الخمسينيات كانت جامعة دمشق هى عنوان الفخار للمحامين والأطباء اللبنانيين الذين درسوا فيها، ومن الخمسينيات وحتى نهاية الستينيات كانت جامعة القاهرة (وجامعة الإسكندرية) هى منهل الدارسين من لبنان، إضافة إلى الجامعة الأمريكية فى بيروت ومعها الجامعة اليسوعية (الفرنسية) وقبل أن يستكمل إنشاء الجامعة الوطنية.

****

أعتذر إن كنت أطلت الحديث عن لبنان الذى تحتدم فيه الأزمة السياسية فى ظل نظامه الذى يكاد يستعصى على الإصلاح: فهو الآن بلا رئيس للجمهورية اعتاد اللبنانيون أن تختاره لهم الدول (الأكثر نفوذا بين العرب، سوريا لفترة، ثم مصر عبدالناصر لفترة أخرى، ثم سوريا بشراكة مع السعودية فى السنوات العشر الأخيرة) ومعها بطبيعة الحال الولايات المتحدة الأمريكية.
لكم اختلف المشهد من خلال لبنان اليوم عنه فى الماضى:

فالحرب فى سوريا وعليها تطرح مسألة كيانها السياسى للنقاش، وتدور المشاورات بين «الدول» أجنبية بالأساس وعربية بالتبعية، حول «كيانها» السياسى، وهل تبقى دولة موحدة، أم ينتهى الصراع بفيدرالية (طوائف؟).

أما فى العراق فإن المنازعات والصراعات السياسية بين قوى من الماضى تتنازع النفوذ على قاعدة طائفية تهدد مصير هذه الدولة التى وصفت فى ماضيها بأنها بروسيا العرب، وتطرح الفيدرالية على قاعدة طائفية (شيعية ـ سنية) ثم عنصرية لكى يكون للأكراد إقليمهم الذى يطمح بعض قيادييه لتحويله إلى «دولة مستقلة» تقاسم الدولة المركزية الثروة الوطنية مع حفاظها على حصتها من مصادر الطاقة الواقعة داخل «حدودها» التى تفصلها الحواجز عما كان «الوطن الأم».

... وها هى دولة اليمن مطروح مصيرها على جدول أعمال «الدول»، لا سيما بعد الحرب فيها وعليها التى تشنها «عاصفة الحزم» السعودية.

أما مصر فمشغولة بهمومها الداخلية الثقيلة التى تشغلها عن التطورات التى تهز، إضافة إلى أقطار المشرق العربى، جارتها، ليبيا التى تكاد تتحول إلى قاعدة لـ«داعش» وشقيقاتها من منظمات أو جبهات التطرف بالشعار الإسلامى..

****

برغم كل شىء، يكاد العرب «يحسدون» لبنان ممثلا فى أذهانهم ببيروت ومصايف الجبل، على استقرار كيانه (ودولته التى كانت دائما وستبقى أضعف من النظام الذى تقوم عليه فيرعاها ويحفظها...).

وهذه ليست شهادة لغد عربى أفضل، مع الأسف الشديد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved