أثر التمرير بين سعر الصرف ومعدلات التضخم

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 2 سبتمبر 2019 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

يتعرض الاقتصاد القومى باستمرار للعديد من الصدمات التى تؤدى لحدوث اضطرابات فى أداء متغيراته الكلية مثل الادخار والاستثمار والإنفاق والمستوى العام للأسعار. ومن أهم الصدمات الاقتصادية التى تعرضت لها مصر فى الآونة الأخيرة هى الصدمة الناتجة عن تحرير سعر صرف الجنيه المصرى مقابل الدولار الأمريكى، كأحد أبرز أركان برنامج الإصلاح الاقتصادى الذى صاغته مصر وأقره صندوق النقد الدولى، الأمر الذى أدى إلى حدوث بعض الاضطرابات السوقية والتى تمثلت أساسا فى ارتفاع معدلات التضخم بنسب كبيرة خلال الأشهر الأولى من قرار التحرير، ومن هنا نشأت أهمية وجود نماذج قياسية يمكن بواسطتها قياس وتقدير والتنبؤ بأثر تحرير سعر الصرف على معدل التضخم فى مصر، وهو ما اعتدت العمل عليه مرارا بمساعدة عدد من أساتذتى وزملائى الباحثين عند قرارات التعويم السابقة وأهمها ما اختبرته البلاد مطلع العقد الماضى.
***
ولمّا كان المنتج الأجنبى المصدّر للسوق المحلية المصرية يعتمد فى إنتاجه على عملته الوطنية (الدولار الأمريكى أو اليورو كأهم العملات الصعبة) وحيث تشهد تلك العملة ارتفاعا مقابل الجنيه المصرى، يقوم هذا المصدّر الأجنبى بنقل أو تمرير (Passــthrough) عبء التراجع فى قيمة العملة المصرية للمستورد والمنتج إلى قيمة الواردات من مختلف السلع الرأسمالية والوسيطة والاستهلاكية، وهو ما ينعكس بدوره على تكلفة الإنتاج وعلى أسعار السلع النهائية، وبالتالى يقوم كل من المستورد والمنتج فى مصر بتمرير عبء ارتفاع الأسعار إلى المستهلك النهائى ما يترجم مباشرة إلى ارتفاع معدل التضخم.
إلا أن معدّل ارتفاع الأسعار استجابة لهذا الأثر لا يعادل بالضرورة 100% من معدّل التراجع فى قيمة العملة الوطنية بل يتراوح هذا الأثر بين 0% و 100% من قيمة التراجع وفقا لقرار المصدّر والذى يملك سلطة المفاضلة بين امتصاص هذا التراجع أو نقل عبئه فى صورة ارتفاع فى الأسعار على النحو المذكور آنفا. وتعد منافسة السلع المنتجة محليا للسلع المستوردة أحد أهم أسباب قيام المصدّر بمراجعة تكاليف الإنتاج لتخفيف هذا العبء على المستوردين، حتى لا يخسر السوق لصالح المنتج المحلى. من ناحية أخرى يملك المستورد نفس القرار بخصوص نقل عبء انخفاض قيمة العملة المحلية مقابل عملات أهم الشركاء التجاريين إلى المستهلك النهائى فى صورة ارتفاع فى الأسعار.
كما تعتمد درجة استجابة الأسعار للتغيير فى سعر الصرف على عدة عوامل منها هيكل السوق، ودرجة التركز فيه، ودرجة تجانس السلع التى يتم تبادلها فى الأسواق، وقابليتها للإحلال، ونصيب الشركات الأجنبية مقارنةً بالمنافسين المحليين، والسياسات التجارية، وسياسات سعر الصرف التى تؤثر على السلع المتبادلة.
ومن الجدير بالذكر أن معدلات التضخم فى دولة ما تتأثر وفقا لدرجة تأثير التغيير فى سعر الصرف على مستوى الأسعار المحلية. كما تشير بعض الدراسات إلى أنها تزيد فى الدول التى تطبق أنظمة سعر صرف مرنة عنها فى الاقتصادات ذات الأنظمة الثابتة وكذلك كان الحال فى مصر حيث ارتفع معدل التضخم فى مصر عقب تحرير سعر الصرف. من هنا كان لزاما علينا أن نتوقع تراجعا فى معدلات التضخم مع التحسن الملحوظ مؤخرا فى سعر صرف الدولار الأمريكى مقابل الجنيه المصرى وانخفاضه إلى ما يقرب من 16.4 جم مقابل متوسط أسعار بلغ 17.8 جم خلال العام السابق على دورة التراجع. لكن يحد من أثر التحسّن النسبى فى قيمة العملة الوطنية عوامل كثيرة مرتبطة أيضا ببعض إجراءات برنامج الإصلاح ومنها الارتفاعات الأخيرة فى أسعار المحروقات والكهرباء والتى بدورها تنطوى على أثر «تمرير» عكسى للمستوى العام للأسعار، خاصة مع ارتباط منتجات الطاقة بصفة عامة بتكاليف الإنتاج والنقل.
وعلى الرغم من تعرّض دول أخرى مثل الأرجنتين إلى صدمات تضخمية عنيفة على خلفية برامج إصلاح اقتصادية مشابهة، اضطرت معها إلى رفع معدلات الفائدة إلى مستويات تاريخية قياسية لامتصاص تضخم الأسعار، إلا أن اتخاذ قرار تحرير سعر الصرف فى مصر قد اتخذ فى ظل عدد من المعطيات التى تحد من أثر تمرير انخفاض قيمة العملة الوطنية إلى الأسعار بشكل كامل وذلك لعدة أسباب هى:
• ضعف العلاقة بين معدل التضخم وسعر الصرف الاسمى.
• لا يعد الاقتصاد المصرى منفتحا بصورة مقلقة على الاقتصاد العالمى، إذ لا تتعدى نسبة إجمالى الواردات من السلع والخدمات إلى الناتج المحلى الإجمالى 25% فى نهاية عام 2018، ولم تختلف تلك النسبة كثيرا عن نظيرتها عقب قرار تحرير سعر الصرف نهاية 2016.
• لا يعد ربط الأجور بمعدل التضخم سمة شائعة من سمات الاقتصاد المصرى، على خلاف غالبية دول أمريكا اللاتينية، مما حد من إمكانية حدوث تضخم حلزونى أو دائرى.
• جاء تحرير نظام الصرف فى وقت يعانى فيه الاقتصاد المصرى من الركود، حيث بلغ متوسط معدل النمو نحو 3% خلال العامين السابقين لقرار التحرير مقارنة بمعدل بلغ 5.4% خلال العام المالى المنتهى فى 2018، وعليه فإن تحول الطلب من السلع المستوردة إلى السلع المنتجة محليا لم يكن يتوقع أن يؤدى حينها إلى نفس الآثار التضخمية التى كانت ستنتج إذا ما كان الاقتصاد فى حالة أقرب إلى التوظف الكامل.
كل ما سبق نستدعيه اليوم بعد أن بدأ البنك المركزى المصرى رحلة من تخفيض أسعار الفائدة على خلفية الاطمئنان إلى استقرار المستوى العام للأسعار واتجاه قيمة العملة الوطنية إلى التحسن مقابل الدولار الأمريكى على خلفية زيادة الإيرادات الدولارية من السياحة وتحويلات العاملين وتدفقات الاستثمار الأجنبى فى أدوات الدين الحكومى.
وكأن عقدين من الزمن لم يوشكا على الانقضاء، وكأننا ما زلنا بالأمس ندرس أثر تحرير سعر صرف الجنيه المصرى مقابل الدولار الأمريكى فى 29 يناير 2003 والذى أعقبه ارتفاع ملحوظ فى معدل التضخم بالنسبة لبعض السلع الأساسية سواء كانت مُصنعة محليا أو مستوردة من الخارج، مما أدى بدوره إلى انخفاض مستوى الدخول الحقيقية للمواطنين وعدم قدرة الكثيرين منهم على توفير كثير من احتياجاتهم الأساسية. وقد خلصت دراستى لأثر تمرير تقلبات سعر الصرف إلى معدلات التضخم آنذاك إلى نتيجة مفادها: ضعف العلاقة بين سعر الصرف ومعدّل التضخم المحسوب من الرقم القياسى لأسعار المستهلكين، واتجاه المستوى العام للأسعار إلى الارتفاع مع ارتفاع سعر صرف الدولار الأمريكى (انخفاض قيمة الجنيه). أما فى حالة الاتجاه النزولى لأسعار الصرف (والذى نشهده نسبيا الآن وعلى المستوى الرسمى) فربما قام التجار بامتصاص أثره على الأسعار أو الاستفادة من عناصر أخرى لرفع السعر مثل الأسعار العالمية، أجور العاملين، فائدة البنوك.. إلى غير ذلك من أسباب تؤدى إلى غياب أثر التمرير فى تلك الحالة، فلا تتحسن أسعار السلع والخدمات فى الأسواق مع تحسّن قيمة الجنيه المصرى أمام الدولار الأمريكى عملة التجارة الدولية الأهم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved