تعميم الخطأ وقلب المنطق باسم الدين!

أكرم السيسى
أكرم السيسى

آخر تحديث: الخميس 2 سبتمبر 2021 - 8:55 م بتوقيت القاهرة

من المعروف أن الإنسان يسعى ويبحث عن كل وسائل الترفيه والاستمتاع فى فصل الصيف، وذلك بعد انتهاء فصول الخريف والشتاء والربيع؛ حيث يكد فيهم الشخص البالغ فى عمله ليكسب لقمة عيشه، وليرتقى بنفسه لينال أعلى الدرجات فى وظيفته علميا وإداريا واجتماعيا، وليسد الاحتياجات المادية له ولكل من يعول؛ وكذلك يبذل الطالب ــ طوال العام الدراس ــ قصارى جهده فى التحصيل الدراسى لينال أعلى الدرجات ليحصل على شهادته بأفضل التقديرات، إلا أن العامين ــ الماضى والحالى ــ فُرِضَا على البشرية كلها فى كل بقاع الأرض ظروفا طارئة لم يعهدها الإنسان من قبل، فقد أصيب العالم بوباء كبَّل حرية الناس، ووضع رقابة على تصرفاتهم وعلى تحركاتهم، فأصبحت حياة الإنسان مقيدة بإجراءات صعبة عليه، ولكنه مضطر بالالتزام بها!

من الغريب أن فى مصر، فى هذا الصيف، لم يكترث كثيرا من الناس بتحذيرات وسائل الإعلام ووزارة الصحة بضرورة اتباع إرشاداتهما؛ ومن أهمها التباعد الاجتماعى، وارتداء الكمامات، والحصول على التطعيم ضد الفيروس...، وذلك للحد من انتشار الوباء، فأقيمت الحفلات الغنائية، والسهرات العائلية، والتجمعات الليلية فى المقاهى وفى المطاعم وفى أماكن المصايف، وعلى رأسها القرى السياحية فى الساحل الشمالى، ورأينا عيانا بيانا كثيرا من العائلات فى المطاعم والمقاهى، وكذلك الشباب والشابات يغنون ويرقصون فى الساحات والقاعات التى أُقيمت فيها هذه الحفلات الغنائية لأكبر وأشهر المطربين، والمثير للتساؤل كيف حصل المنظمون لهذه الحفلات على موافقة من الجهات المسئولة على تنظيم هذه الحفلات دون فرض شروط التباعد، ودون رقابة من الجهات المعنية؟ وكان من أخطر نتائج هذه المخالفات أن دولا كثيرة من العالم وضعت مصر فى المنطقة الحمراء، أو أبقت عليها فى هذه القائمة، أى من الدول الخطر زيارتها أو استقبال مواطنيها فى بلدانهم!

فضلا عن الصورة السيئة التى أصابت مصر، وأضرت بها وبمصالح مواطنيها فى الخارج، فقد أثارت هذه التصرفات حفيظة كثير من اتجاهات المجتمع، خاصة عامة الشعب والطبقات المتحفظة، كما أنها كانت فرصة ذهبية لجماعة أعداء الوطن لإحداث وقيعة بين الشعب وحكومته، فكان اعتراض ــ الطرف الأخير خاصة ــ على كيف تسمح الحكومة بالتصرفات السابق ذكرها وهى مازالت تفرض قيودا على المساجد والكنائس؟ فيما معناه أنه اتهام صريح لبعض المسئولين بأنهم ضد إقامة الشعائر الدينية، فهم يسمحون بالتجمعات فى الملاهى دون قيود، ويمنعونها فى دور العبادة! متغافلين أن مصر ليست الدولة الوحيدة التى فرضت قيودا على المساجد والكنائس، فالصلاة فى الحرمين الشريفين مُنعت لفترة طويلة، ومُنع أيضا أداء فريضة الحج والعمرة لأكثر من عام، ومازالت تُفرض قيودا وشروطا على أداء العمرة، وكذلك حدث فى بازليك القديس بطرس البابوية بالفاتيكان فى روما!
•••
فى الحقيقة، هذا الاعتراض يمكن أن يكون فى مَحَلِه لولا أن طريقة معالجته من طرفهم هى فى غير موضعها على الإطلاق، فقد طالبوا المسئولين بأن يسمحوا بفتح دور العبادة على مصراعيها، ودون أى احتياطات صحية، مثلما يحدث فى أماكن التلاهي! هذه هى مرجعيتهم الفكرية كما يقول لسان حالهم إن «الخطأ يُعالَج بالخطأ»!، فبدلا من أن يُدينوا هذه المخالفات، ويطالبوا بمنع التجمعات دون احترازات، ومحاسبة المسئولين عن المخالفات، واحترام القوانين، فهم يطالبون بتعميم نفس المخالفات والأخطاء التى يعترضون عليها فى كل مكان وعلى رأسها المساجد والكنائس، فهذا هو «المنطق المقلوب» بعينه الذى يتعاملون به مع أى مشكلة اجتماعية أو سياسية أو دينية أو مالية، وهو ليس بغريب على هذه الجماعات مدعية الدين أو «أصحاب الهوس الدينى» الذين يُفضلون تكرار الحج وتعدد مرات العمرة على أن يتبرعوا لفقراء وطنهم من المرضى والمساكين واليتامى، متجاهلين أن هذا المنطق يضُر بأهم مقاصد الأديان، وهو التكافل الاجتماعى، والحفاظ على النفس البشرية، واحترام أمن وأمان المجتمع، والتوظيف الصحيح لأموالهم فيما ينفع إخوانهم من أبناء وطنهم!
وفى مشهد آخر يعكس نفس «المنطق المقلوب» لدى الذين يبحثون عن تطبيق الشعائر الدينية دون البحث عن جوهرها ومفاهيمها ومقاصدها الصحيحة التى تحث الفرد على احترام القوانين، وعلى الالتزام بالسلوكيات المنضبطة للمجتمع، وعلى الحفاظ على النفس، وعلى أنفس الآخرين، فقد كنت فى زيارة لأحد الأقرباء يسكن فى إحدى المدن السكنية الراقية والشهيرة بالقاهرة الجديدة، وكان ذلك وقت إقامة صلاة يوم الجمعة، وفى طريقى فوجئت بمجموعة كبيرة من الناس يسيرون بسياراتهم الفخمة متجهين، بسرعة كبيرة، إلى المسجد فى الاتجاه المعاكس، للحاق بالصلاة، الأمر الذى يمكن أن يؤدى لوقوع حوادث تصادم بين السيارات، ويُعرض حياة المارة والراكبين سياراتهم للخطر، وربما للهلاك، وكان ذلك إما لأنهم متأخرون عن موعد الصلاة، وهذا إهمال منهم، وإما لأنهم يستسهلون طريقة الوصول للمسجد فيخالفون قواعد المرور، ويأخذون الطرق المخالفة، وهذا استهتار وكسر للقوانين، وهم فى الحالتين يتجاهلون أهم مقاصد الصلاة التى من أجلها شُرعت، فإنها: «تنهى عن الفحشاء والمنكر»، فكيف يستقيم هذا التناقض!
•••
هذا التناقض أو «المنطق المقلوب» نراه جليا فى سياسات وتصرفات دول تُسخِّر الدين لصالح السياسة، فتنظيم «طالبان» فى أفغانستان الذى استولى مؤخرا على الحكم فى بلادهم، ويطالبون بتطبيق الشريعة الإسلامية، هم ــ كما يعلم الجميع ــ متهمون بأنهم من أكبر منتجى الأفيون فى العالم، والذى يتم تكريره لإنتاج الهيروين؛ هذه الزراعة والتجارة المُحرمة التى تُصدِّرُها لكل بلدان العالم هى أهم مواردهم المالية! علما بأن أفغانستان من أغنى دول العالم بالمعادن والأحجار الكريمة غير المستغل، هكذا «منطقهم المقلوب»، يتركون العمل المشروع، ويعملون فيما هو غير مشروع! فضلا عن أنهم يُصدرون كل أنواع الإرهاب، والتطرف الفكرى، والتعصب الدينى، وكذلك احتضانهم للإرهابيين من كل أنحاء العالم!

ومن ناحية أخرى، هم لا يضعون فى اعتبارهم أن الإسلام مثل كل الأديان يدعو للتسامح مع الآخرين من المعتقدات الأخرى، ولكنهم يعملون عكس ذلك، ويقدمون أسوأ نموذج للدين الإسلامى، هم فقط يُحافظون على المظاهر بارتدائهم الجلباب وبتربية اللحى؛ إن العالم لم ولن ينسى تدمير ميليشيات طالبان بالديناميت ــ فى مارس 2001 ــ للتراث البوذى فى أفغانستان الذى يشمل تمثالين ضخمين للفيلسوف بوذا، منحوتين على منحدرات وادى باميان فى منطقة هزارستان فى وسط أفغانستان، ويعود تاريخ هذين التمثالين إلى ما قبل نزول الإسلام بقرن كامل (الخامس الميلادي)، ولم يدع أحد بتدميرهما أو باعتبارهما «أصناما»، ويُعدان من أهم راوئع الفن الآسيوى، وأحد مواقع اليونسكو للتراث العالمى، علما بأن التدمير تم رغم إدانة كل المؤسسات الدينية الإسلامية فى العالم، وعلى رأسهم الأزهر الشريف، والاتحاد العالمى لعلماء المسلمين!

والغريب والمؤسف فى نفس الوقت أن «الطالبان» يجهلون أن «بوذا» هو لقب معناه الحكيم، أو المستنير، وأنه لم يدَّع النبوة، ولم يعاد الأديان، وقد أعطاه مايكل هارت الترتيب الرابع فى كتابه «الخالدون المائة» الذى وضع النبى محمد عليه السلام فى المرتبة الأولى، كما أن البوذية فلسفة لا علاقة لها بالأديان، وإنما هى فلسفة حياة تقوم على التَّجرُّد والزُّهد، وتعمل على تخلُّص الإنسان من الشهوات والألم!

كما أنهم، من ناحية أخرى، يجهلون أن النبى (صلى الله عليه وسلم) تعامل مع المجوس ــ وهم عبدة النار ــ مثلما تعامل مع أهل الكتاب، فقد أعطاهم الأمان على أرضهم وأموالهم مقابل جزية؛ فعندما تساءل عمر بن الخطاب عن وضع المجوس، أبلغه عبدالرحمن ابن عوف بأنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «سنّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب»، وعندما حاول المنافقون المزايدة على الإسلام حين قالوا: «زعم محمد أنه لا يقبل الجزية إلا من أهل الكتاب وقد قبلها من مجوس هجر، وهم غير أهل الكتاب، نزلت الآية الكريمة: «يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم مـن ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون»!

هذه مشاهد واقعية وتاريخية تثبت التناقض الفكرى، وقلب المنطق باسم الدين لدى المتطرفين، وفى المقابل مشاهد أخرى تؤكد أن الإسلام الذى بُعث به نبينا الكريم هو سَمِح، ويدعو من أول آية فى كتابه المُعجز للقراءة الواعية، وللعلم المتسنير، وللعقل الحكيم، وللمنطق السليم، أما «المنطق المقلوب» فهو ليس من الإسلام فى شيء.
والله أعلم

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved