منذ فجر الضمير إلى طريق وادى النطرون!
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 2 سبتمبر 2024 - 8:00 م
بتوقيت القاهرة
كل الشكر لمواقع التواصل الاجتماعى التى كشفت عن حالة من الجدل حول المسلّمات والمبادئ والأعراف الحاكمة للعلاقات بين البشر فى مصرنا الحبيبة. التفاوت الكبير فى نظم التعليم ومصادر الثقافة والمعرفة، والتراجع الملحوظ فى أهمية العلم والعلماء فى سلّم التقدير المجتمعى، ناهيك عن تراجع مستوى التعليم وتصنيفه إقليميًا وعالميًا بشكل عام.. كل ذلك كان مصدرًا مهمًا لهذه الحالة الجدلية التى نحتاج معها إلى اللواذ بعدد من الثوابت المرجعية، كى لا نكون كأهل بابل الذين بلبل الله ألسنتهم وتعددت لغاتهم فتعذّر التواصل بينهم، كما ورد فى الكتاب المقدّس.
كل ما سبق ما كان ليحدث لولا تأخّر مصر عن ركب التقدم الحضارى بعدما كانت قائدا له، وعدم وجود تصوّر مشترك لدى المصريين عن النموذج التنموى الذى نريده لبلادنا خلال الأعوام والعقود بل والقرون المقبلة. لا أريد أن أكرر هنا سرد النظريات التى أشارت إلى تبعية المهزوم حضاريًا ورغبته فى محاكاة المنتصر على الدوام، سواء أكان ذلك المنتصر قد حقق نصرًا عسكريًا أو اقتصاديًا أو سياسيًا حوّله إلى نموذج يحتذى به.
وبعيدًا عن الشوفينية وإكبار الذات، فبلادنا تملك بحق تاريخًا عظيمًا وتجربة فريدة، تسمحان لها بالعودة إلى مسار تنموى متفرّد، ينطلق من مقومات وعناصر للقوى تضرب بجذورها فى أرض ثابتة مستقرة، تجاوزت تحديات الندرة والفقر والغزو والاحتلال فى عدد من العصور، باستخدام أدوات العصر وتطويرها وتطويعها وتمصيرها فى كثير من الأحيان، لصناعة نموذج خاص لا يقوم على التقليد أو منافسة الأثرياء أو انتقاء اللقطات التى تصنع مجدًا عابرًا، لا تلتقطه مستقبلات الشعوب بقدر ما تلحن به خطب الحكومات.
• • •
يقول «جيمس هنرى برستيد» فى رائعته «فجر الضمير» التى ترجمها إلى العربية الدكتور سليم حسن «فيتضح من ذلك أن المصير الذى كنا نراه خاصًا بالملوك فى كل الصيغ التى جاءت بها متون الأهرام قد صار من نصيب كل إنسان، بل إن الحياة التى كانت أبسط من تلك التى وصفناها، أى التى كان المواطن المتواضع يصبو إلى دوام استمرارها فى عالم الآخرة، صار لها أيضًا مكان مرموق فى متون التوابيت، فكان فى وسع المتوفى وهو راقد فى التابوت أن يقرأ التعويذة الخاصة ببناء بيت فى العالم السفلى، وحفر بركة حديقة وغرس أشجار فاكهة»، ويقول فى موضع آخر: «وقد صار من المتّبع عادة منذ بداية الدولة الوسطى أن يضاف إلى اسم كل متوفى نعت «المبرّأ». وهذا النعت هو الذى كان قد ناله «أوزير» فيما مضى بصفته الخصم الظافر على أعدائه، المبرّأ أمام محكمة الشمس. وقد كان ذلك النعت كما نعلم من متون الأهرام لا يضاف إلا إلى اسم الفرعون فقط، غير أنه صار بالتدريج امتيازًا تمنحه كل روح، أو على الأقل صار من حق كل روح متسمة بالأخلاق الفاضلة. وفى ذلك تطور لأهمية الفرد ورفاهيته فى الدولة المصرية القديمة، واتصال واضح بين دنياه وآخرته التى يستمد منها طاقة العمل والالتزام فى حياته الدنيا، على وعد ببعث وخلود قبل أن يعرف العالم الأديان السماوية الإبراهيمية.
وإذا كانت المعارك الفكرية تدور اليوم حول قيمة العلم والعمل، وأهمية الأخلاق والآداب فى مقابل الثروة، فإنه يتعيّن علينا العودة إلى مرجعية حاكمة، يلتمسها البعض (وأنا منهم) فى تعاليم الأديان والقدوة الحسنة المستمدة من الأنبياء والرسل والحواريين، بينما يمكن للبعض الآخر التماسها فى نصوص تركها لنا المصريون القدماء منذ آلاف السنين، صاغوا بها الضمير البشرى، وأثّروا بها على مختلف حضارات العالم القديم، ولولاها ما صنعوا مجدًا ولا تركوا أثرًا، ولا عرفت البشرية هذا التراكم المعرفى الجبّار الذى تجوب به اليوم الفضاء الفسيح، وتعرف عن الكون والنفس البشرية ما لم يعرفه الأوّلون.
يقول «برستيد» فى فجر الضمير: «وأما فى الأخلاق وفى موقف الإنسان تجاه الحياة فإن الحكماء استمروا فى المحافظة على روح الاحترام لأسمى المثل العليا العملية، وهو موقف ندرك فيه تقدمًا محسوسًا على التعاليم العتيقة للآباء، فصاروا يحفلون بحسن الذكر، وطيب الأحدوثة ويتشددون فى المحافظة على السمعة»، فيقول الحكيم «آنى»: دع كل مكان تحبه نفسك معروفا عند الناس».. ويقول أيضًا: «أما أطايب الحياة ومتاعها فيجب على الإنسان أن ينظر إليها بتحفّظ فلسفى، ومن الحماقة أن يعتمد الإنسان على الثروة الموروثة ويظنها مجلبة للسعادة».
بهذه التعاليم وتلك الروح تمكّن المصرى القديم من اجتياز الأزمات والهنّات التاريخية دون مساس بضميره الحى الذى يميز به بين الخير والشر، ويعرف من خلاله الطريق إلى بناء الإنسان ثم بناء الدولة التى لا قيمة لها ولا بقاء بغير بشر. تمر آلاف السنون وتخبو جذوة مصر بين الأمم، بعدما تواترت عليها الغزوات وانتهبت خيراتها، حتى قادها سلسال من العبيد المتناحرين! ثم ابتعثت من رقادها على يد مؤسس الدولة الحديثة محمد على باشا. يقول الأستاذ «محمد عبدالفتاح أبوالفضل» فى كتابه «الصحوة المصرية فى عهد محمد على» وتحت عنوان استمرار سياسة محمد على العمرانية بين بداية حرب اليونان سنة 1821 ونهاية حرب سوريا والأناضول سنة 1841: «رغم استمرار حالة الحرب منذ بداية حرب اليونان سنة 1821 حتى انتهت سنة 1828 فقد قام محمد على حتى أثناء هذه الحرب بالاستمرار فى مشاريع التعليم والعمران والإصلاح ومتابعة التوسّع فى النشاط الإنتاجى الزراعى والصناعى»، ويقول فى موضع آخر تحت عنوان تحقيق الرفاهية والانتعاش: «نتيجة سياسة محمد على فى مجال تنظيم الضرائب وإعادة تسجيل الملكيات العقارية وجمع الرسوم والتوسّع الصناعى والزراعى وإحكام النظام الإدارى والتعليم فقد تحقق الانتعاش، وليس أدل على ذلك من مراجعة ميزانية مصر عام 1833 من إيرادات ومصروفات»، انتهى الاقتباس.
وقد حققت مصر فى ذلك العام (رغم الحروب والصراعات والاضطرابات السابقة وشح الموارد واضطراب الفيضان) فائضًا فى موازنتها العامة تجاوز نصف المليون جنيه، إذ بلغت الإيرادات حوالى 2,5 مليون والمصروفات 1,99 مليون جنيه، وقد اتسع الفائض فى عام 1842 حيث كانت الإيرادات 2,9 مليون جنيه والمصروفات 2,2 مليون (وفق كتاب الصحوة المصرية سالف الإشارة). كانت الإدارة الجيدة بأدوات العصر والاهتمام بالتعليم ونية الإصلاح وفق رؤية واضحة.. هى عماد تلك النهضة الحديثة التى ما زلنا نبحث اليوم عن نموذج تنموى نهضوى لخلافتها.
• • •
الآن وقد أوشك المقال على بلوغ نهايته، حق للقارئ العزيز أن يسأل عن علاقة كل ذلك بطريق وادى النطرون! فبينما كنت فى طريقى إلى أحد شواطئ الساحل الشمالى الأسبوع الماضى، وهو أمر نادر الحدوث نظرًا لأن أجواء الصخب الصيفى فى غالبية شواطئ ما يعرف شعبيا بالساحل الشرير لا تروق لى أو لأسرتى، كان علىّ أن أسلك طريقًا صحراويًا متفرّعًا من طريق القاهرة - الإسكندرية اسمه طريق وادى النطرون. وبالرغم من كونى سلكته مرارًا فقد لفت انتباهى (نظرًا لتعدد الرادرات على الطريق) أنه يخلو تمامًا من أى لافتة ترشد إلى السرعة القصوى المطلوبة! كذلك لم أجد لافتة واحدة تحدد المسافة المتبقية لنهاية الطريق وذلك لم يزد على 135 كم تقريبًا، هى طوله الإجمالى كما تخبرنا خرائط المحمول! خلو ذلك الطريق من اللافتات والعلامات يجعله شديد الشبه بطريق التنمية الذى تعدنا به معظم حكومات ما بعد سقوط الدولة العلوية. نحن نعرف أن النية هى الوصول إلى الشمال، نعبّد من أجل ذلك الطريق، لكن أحدًا لا يعرف موقعه على وجه التحديد، ولا السرعة التى يتعيّن عليه السير بها ليصل فى موعده دون اختراق النظام أو مخالفة القانون، ولا يعرف أى شمال يقصد، إذ تنتظره قبل بلوغ غايته غابة من الكبارى المعقّدة والطرق الفرعية عليه أن يفك شفرتها حتى يصل بسلام.