صورة الواقع العربي من خلال منبر الأمم المتحدة..

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الثلاثاء 2 أكتوبر 2018 - 11:15 م بتوقيت القاهرة

 

ما بين مشهد ياسر عرفات واقفاً أمام منصة الأمم المتحدة ليتحدث، باسم فلسطين، وبخطاب كتبه شاعرها وشاعرنا العظيم محمود درويش، قبل ثلاث وأربعين سنة، وبين مشهد محمود عباس واقفاً أمام المنصة ذاتها ليتحدث باسم القضية المقدسة ذاتها وبخطاب كُتب على عجل، مراعياً ألا يغضب أحداً فيتجاهل "التحرير" وكل ما قد يثير الغرب الأميركي ومن ضمنه دولة الاحتلال الإسرائيلي، تتبدى مساحة التنازلات مفجعة، وتتحول "القضية" من تحرير وطن إلى خلاف على مساحات من الأرض لا قداسة لها ولا تاريخ لها ولا أهل قاتلوا لمدة قرن، تقريباً، من أجل حقهم فيها وإقامة "دولتهم" فوق أرضها..

للتذكير: أودع ياسر عرفات، يومها، مسدسه لدى أمن المنظمة الدولية ودخل إلى الجمعية العامة ليبدأ خطابه بالقول: جئتكم حاملاً غصن الزيتون تدليلاً على الرغبة بالسلام العادل الذي يحفظ لأصحاب أرض السلام حقهم فيها..

أما محمود عباس فقد وقف أمام الجمعية العامة بكامل أناقته، البدلة غالية الثمن وربطة العنق الموقعة من صانعها الأوروبي، والخطاب على ورق ثمين وضمن مغلف أثمن.. وقد خلا من كلمات نافرة مثل "التحرير" و"المقاومة" والحق المطلق في الأرض المقدسة.. مع عرض مغرٍ بتقاسم هذه الأرض لإقامة "الدولتين"!

في هذا الوقت كانت "الانتفاضة" في الأرض المحتلة تتصاعد متنقلة بين الضفة الغربية وقطاع غزة، تكتب بدماء الشهداء والجرحى حق أهل الأرض بأرضهم وبدولة لهم فيها ولو على بعض أرضهم، طالما يستحيل عليهم تحريرها جميعاً لأسباب خارجة عن إرادتهم وتتصل بإرادات الدول العظمى والعجز العربي الذي بلغ حدود الخيانة.

فأما الرؤساء العرب ومن يمثل الملوك منهم ومعهم الحكام- الأمراء فكانوا مشغولين باللقاء مع وزير الخارجية الأميركي للتباحث حول "المستقبل" بينما الرئيس الأميركي الوعل يخطب من على منبر الأمم المتحدة ليهدد العالم كله، بنبرة "الأمر لي" في السلم والحرب والاقتصاد والتجارة والزراعة وعلوم الفضاء والذرة والقمح والبطاطا والفاكهة وصولاً إلى البصل والثوم!

***

لا وقت للحديث عن اليمن إلا لرئيسها...

أما العراق فليرتب أموره بين الأمريكان والإيرانيين والأكراد والترك وداعش متعددة الآباء والأبناء.. فإذا نجح بقيت أمامه مشكلة تقاسم السلطة بين القوى المتعارضة متعددة المذاهب والطوائف والأعراق والعناصر..

وأما سوريا فليكن مصيرها بين الروس والإيرانيين والأتراك والأميركيين وفصائل الإرهاب، فإن انتصر النظام بفضل حلفائه فستكون لروسيا حصة ولإيران حصة ولتركيا حصة ولأميركا حصة... والباقي للسوريين!

 

وأما لبنان فإنه يستعيد تاريخ صراعاته الطوائفية مع هذه "الحروب" الطوائفية والمذهبية في دول الجوار، مما يهدد بإفساد التوافق الهش على صيغة "الوحدة الوطنية" وتقاسم المناصب والمنافع بين زعماء الطوائف والمذاهب الذي لكل منهم مرجعيته في الخارج، سياسياً وطائفياً وبالعكس..

***

لا وقت لفلسطين لدى العرب الذين غادروا "أمتهم الواحدة" وشعارات التحرير والتقدم بالثورة.

لقد باتت فلسطين عبئاً ثقيلاً على كواهل المسؤولين العرب الذين يقفون بالطابور أمام أبواب البيت الأبيض وسائر الإدارات الأميركية بعنوان المخابرات المركزية..

ولعل هذا التخلي العربي يريح المسؤولين الغربيين من ثقل الإحساس بالذنب نتيجة المسؤولية المباشرة عن إقامة الكيان الصهيوني على حساب الشعب الفلسطيني وحقه التاريخي في أرضه التي كانت دائماً أرضه..

.. خصوصاً وأن التخلي قد واكبه "إقبال" العرب على الاعتراف بالأمر الواقع ، الاعتراف بالكيان الإسرائيلي وتبادل السفراء مع "دولة العدو"، سابقاً، ثم توالت التنازلات: من مبدأ "الدولتين" إلى مبدأ واقع "الدولة" و"السلطة" التي لا سلطة لها في الضفة الغربية.. وغزة (ولو نظرياً)!..

***

بعد ذلك، كان لا بد من حسم "الأمور المعلقة"، وهكذا قرر دونالد ترامب أن يتجاوز حكاية "الدولتين" بقراره الهمايوني: نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة، محرضاَ "الدول التابعة" على نقل سفاراتها أيضا... إقراراً عملياً بكون فلسطين قد "صارت" إسرائيل، دولة اليهود في العالم أجمع..

ولم يكن التطرف الإسرائيلي بحاجة إلى أكثر من هذه الرسالة الواضحة لكي يتحرك: فتنطلق "تظاهراته" لتحاصر المصلين في المسجد الأقصى، ولكي تثبت الشرطة والجيش الإسرائيلي قوتهما بإطلاق الرصاص على المتظاهرين وقتل ستة منهم وجرح العشرات من الذين قدموا للصلاة، لعلها تحمي أولى القبلتين وثاني الحرمين ومسرى النبوة إلى صاحب العزة والجلال.

***

على مستوى دولي آخر، واستكمالاً لخطة تصفية فلسطين، قضية مقدسة لشعبها الوطني، الذي كان شعبها عبر التاريخ، أقدمت الولايات المتحدة الأميركية على خطوة غير مسبوقة، وإن كانت "مقدماتها " معروفة: فقد ألغت واشنطن مساعداتها لوكالة الغوث الدولية للاجئين، التي كانت في الأصل مكرسة لخدمة من شردهم الاحتلال الإسرائيلي من وطنهم الذي سيبقى وطنهم فلسطين.. فحذف حرف الP من اسم هذه الوكالة الدولية لجعلها "مطلقة" تختص باللاجئين في أنحاء الأرض جميعاً، ولا علاقة لها بالفلسطينيين بالذات وتحديداً.

هكذا أصبح الشعب الفلسطيني مجاميع من اللاجئين، بعضه في أرضه (في الضفة الغربية وقطاع غزة) والبعض الآخر تائه على وجهه في أربع رياح الأرض، بلا مرجعية دولية، ولو للإغاثة، فضلاً عن سقوط المرجعية العربية لتحرير فلسطين، مع سقوط مقررات قمة التنازل العربية في بيروت في العام 2002.

هكذا إذن: يسقط شعار التحرير بقرار عربي مصدره أميركي، ويسقط قرار الإغاثة بقرار دولي مصدره أميركي.. ويتلاقى وزراء الخارجية العرب تحت سقف الأمم المتحدة في نيويورك، بقيادة وزير الخارجية الأميركي وهم يجلسون مكتوفي الأيدي يستمعون صامتين للقرارات الأميركية التي تحدد لهم مواقعهم وسياساتهم فيما يتصل بقضاياهم الحيوية، بل المصيرية، بعنوان فلسطين.

*** 

كيف ستصمد القضية المقدسة، فلسطين، وسط هذا التمزق والضياع والارتهان العربي لإرادة الخارج (الأميركي أصلاً ، والإسرائيلي فعلاً)..

إن "الوطن العربي" الذي طالما حلمت به الأجيال واحداً موحداً، هو الآن عبارة عن "مزق": دول متقاطعة، أو متحاربة، معظمها خاضع للهيمنة الأميركية، وبالتالي لمشاريع التوسع الإسرائيلية .. بعضها متهم بموالاة إيران، وبعضهم الأخر يحتاج إلى الحماية الروسية لكيانه السياسي، مع تداعيات هذه الحماية عربياً، على الحاضر والمستقبل..

***

إنها لشجاعة نادرة أن يذهب قادة الدول العربية إلى نيويورك، وأن يقفوا على منصة الأمم المتحدة ليتحدثوا وكأنهم أصحاب القرار في بلادهم، بينما يخاطبهم دونالد ترامب وكأنهم رعايا وقاصرون ويبلغهم قراراته بغير تورع.. ويقف، في مواجهتهم رئيس حكومة العدو الإسرائيلي حاملاً خريطة تشير إلى المواقع العسكرية الإيرانية في سوريا التي ضربها أو سيضربها طيرانه الحربي.. حرصاً على سلامة الأمة العربية وأهدافها النبيلة في التحرر والوحدة والتقدم!

لقد هزُلتْ..            

رُبَّ يوم ٍبكيتُ مِنُه فلمّا       صرتُ في غيره بكيتُ عليه

رئيس تحرير جريدة السفير اللبنانية

الاقتباس

إن "الوطن العربي" الذي طالما حلمت به الأجيال واحداً موحداً، هو الآن عبارة عن "مزق": دول متقاطعة، أو متحاربة، معظمها خاضع للهيمنة الأميركية، وبالتالي لمشاريع التوسع الإسرائيلية .. بعضها متهم بموالاة إيران، وبعضهم الأخر يحتاج إلى الحماية الروسية لكيانه السياسي، مع تداعيات هذه الحماية عربياً، على الحاضر والمستقبل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved