كلمات حق يراد بها باطل

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الأربعاء 2 أكتوبر 2019 - 8:50 م بتوقيت القاهرة

أصبح من الضرورى فى أيامنا الصعبة المعقدة التى نعيشها عبر الوطن العربى كله أن نكون حذرين تجاه بعض الكلمات التى يكثر استعمالها أخيرا فى قاموس الخطاب السياسى العربى.
فعلى سبيل المثال لاحظت أثناء محاضراتى عن الشئون العربية القومية العامة وسبل الخروج من كوارثها استعمال كلمة «التجديد» بصورة متكررة. البعض يطرح أمر تجديد الفكر القومى، والبعض الآخر يطرح ضرورة تجديد الفكر الإسلامى.. إلخ من التجديدات المطلوبة.
لكن المطالبين بالتجديد لا يحددون جوانب وموضوعات التجديد، الأمر الذى يلقى بظلال الشك على كل ما جاء به ذلك الفكر من مبادئ وحلول ويضعف إيمان المواطنين، وعلى الأخص الشباب والشابات منهم، بذلك الفكر على إطلاقه. وهذا بالضبط ما يسعى إليه التآمر الاستعمارى ــ الصهيونى، الذى يسعى إلى إبعاد الشباب العربى عن كل الأفكار الثقافية العربية المشتركة الكبرى التى تسعى إلى مواجهة التراجعات والأخطار الكارثية فى حقول السياسة والاقتصاد والأمن والاجتماع.
فلو أخذنا المطالبة بتجديد الفكر القومى، هل حقا أن الجانب الوحدوى، وحدة الأمة والوطن العربى الكبير، الذى هو أحد الممرات الرئيسية الضرورية لتعافى الأمة من تخلفها الحضارى وضعفها الاقتصادى والأمنى وهوانها أمام أعدائها الكثيرين.. هل حقا أنه يحتاج إلى مراجعة؟ إذا كان المطلوب هو تجديد وسائل ومراحل تحقق ذلك الهدف القومى، فهذا أمر طبيعى ومقبول، نظرا لتغير الظروف وتعقدها. أما إذا كان المطلوب هو تجديد الهدف، وهذا فى الواقع سيعنى التراجع والقبول بقدر التجزئة والتفتيت لهذه الأمة ولهذا الوطن، فإننا هنا أمام تراجع مذهل فى مواضيع هوية الإنسان العربى وتاريخه وآماله المستقبلية المشروعة، بل نحن أمام محاولة التهميش للوجود العربى فى حضارة العصر.
أما إذا كان التجديد المطلوب هو إضافة مبادئ الديمقراطية ومكوناتها وممارساتها لتصبح جزءا أساسيا من الفكر القومى، الذى لم يعطها الأهمية الكافية فى الماضى، بل واعتبرها البعض ترفا برجوازيا فى وجه المطالب السياسية والاقتصادية الثورية، فإن هذا هو تجديد مطلوب وضرورى. وهذا ما فعله مثلا مركز دراسات الوحدة العربية عندما نشر مقترحه المسمى «المشروع النهضوى العربى»، إذ جعل الديمقراطية أحد أعمدة ذلك المشروع.
كذلك، مثلا، لاحظت استعمال كلمة «الآخر» دون انتباه إلى أن مفهوم الآخر قد تغير بصورة جذرية ففى الماضى كان الآخر هو الإنسان الغربى، بفكره وعاداته وممارساته السياسية الاستعمارية على الأخص. لكن الحاضر العولمى يقول بأن «آخرين»، وعلى الأخص آسيويين جدد، يصعدون ويحيطون بنا. فهل مواقفنا وتعريفاتنا وشكوكنا السابقة تنطبق على الواقع الجديد؟ وإذا كان الجواب سلبا فما هى المحددات والفروق بين «الآخر» القديم «والأخر» المضاف الجديد؟.
ذلك فى عوالم الفكر والنظريات، ولكن ماذا عن استعمالات متنامية للخلط الواضح المقصود لكلمتى: الشرعية والمشروعية.
فما إن تخرج مظاهرات جماهيرية احتجاجية ضد مسائل الظلم والفساد والاستبداد والأوضاع المعيشية المتردية، فى هذا القطر العربى أو ذاك، حتى ينبرى الإعلام الرسمى المهول وبعض الإعلام الخاص البذىء اللسان برفع كلمة «لا مشروعية» تلك المظاهرات، وذلك بحجة أن هناك قوانين تمنع خروج تلك المظاهرات، أو أن الأوضاع الأمنية حساسة وحرجة.
لكن هؤلاء ينسون بأن المشروعية القانونية التى يشيرون إليها يجب أن تخضع لمنطوق كلمة أخرى، وهى كلمة «الشرعية».
فإذا كان النظام شرعى، أى منبثق من إرادة الناس بحرية ونزاهة، وبقبول عام، وعن طريق ممارسة ديمقراطية شفافة لا تلاعب فيها، فإن المشروعية القانونية التى يتحجج بها وترفع فى وجوه الجماهير، هى بالفعل مشروعية يجب أن تحترم ويؤخذ بها، لأنها شرعية ومعبرة عن إرادة عامة وقبول حر عام.
أما إذا كانت هناك ألف علامة من التساؤلات والشكوك حول شرعية السلطة، وحول كفاءتها فى إدارة أمور البلاد والعباد، وحول مقدار توازن مكوناتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، وحول مقدار وجود توازن عقلى وخلقى ونفسى عند بعض قادتها الأساسيين، فإن رفع شعارات وتهديدات القوانين التى توصف بالمشروعة مملوء بالانتهازية وبممارسة القول الشهير: «كلمة حق يراد بها باطل»
هناك أمثلة كثيرة لكلمات أخرى لا تسمح محدودية المقال بذكر أغلبيتها، مما تمتلئ الساحة السياسية العربى بها على الأخص وهى كلمات مليئة بالغموض ومستعملة بانتهازية من قبل كتاب مدفوعى الأجر بصورة خاصة. والهدف منها هو خلط الأوراق والمفاهيم والأهداف فى ذهن الإنسان العربى، وعلى الأخص الجيل الجديد.
ذاك الجيل الجديد، الذى ينغمس فى عمليات التواصل الاجتماعى بصور متنامية، ويعتمد على ذاته فى فهم الخطابات العامة، يحتاج أن يطرح ألف سؤال حول كل كلمة يشتم منها بأنها استعملت للتضليل والإدخال فى عوالم التيه الفكرى والسياسى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved