سيدة الفراشات

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 2 أكتوبر 2021 - 8:35 م بتوقيت القاهرة

عندما انطفأت الأنوار وراح يراقب عزف الموسيقيين على المسرح أغمض عينيه وانطلق معهم إلى مكان بعيد. تراءت له فراشات ملونة تطير فى الجو، ثم ظهرت سيدة تلبس الأبيض كما لو كانت من الدخان، روحها تملأ المكان، لديها شيء استثنائى فبدت وكأنها سيدة الفراشات، بثوبها الطويل الفضفاض. بعد أن انتهت المقطوعة، أراد أن يكتشف اسمها من فرط ما أعجبته وتماهى معها، وهنا كانت المفاجأة فالمقطوعة هى جزء من أوبرا «مدام بترفلاى» لبوتشينى والتى تروى قصة فتاة يابانية من فتيات الجيشا تدعى «الفراشة»، فى بداية القرن العشرين، وقعت فى حب ضابط أمريكى وتزوجته على الرغم من معارضة أهلها لاختلافات الدين والثقافة بينهما، وبعد فترة تركها ورجع إلى بلاده حيث ظل أكثر من ثلاث سنوات، دون حس ولا خبر كما يقولون. ولدى عودته اتضح أنه تزوج من أخرى واختار حياة جديدة لا مكان لها فيها، حزنت كثيرا وقررت أن تنتحر بضربة سيف على طريقة الهاراكيرى، مثلما يفعل الساموراى لكى يكفروا عن أخطائهم ويمحوا عار الهزيمة والغدر.
•••
أراد أن يعرف المزيد عن السيدة التى ظهرت له فجأة مع الموسيقى، ودُهِشَ كثيرا لأن رسومات الأوبرا القديمة التى صورتها فى مطلع القرن العشرين كانت تشبه الشكل الذى رآه، وفهم وقتها أن ثوبها الأبيض الذى وجده غريبا بعض الشيء ما هو إلا الكيمونو التقليدى. شعر أن رؤيته للشخصية جاءت مقاربة لبوتشينى ومبدعى الأوبرا أو حتى كاتب القصة الأصلية المأخوذة عن الواقع، جون لوثر لونج، المحامى والكاتب الأمريكى. صارت كلمات بوتشينى حول هذه الأوبرا بأنها أروع أعماله «صدقا وتعبيرا» واقعا ملموسا بالنسبة له، فقد كتبها المؤلف الموسيقى خمس مرات حتى جاءت على هذا النحو وأصبحت سادس أوبرا تلاقى انتشارا حول العالم إلى وقتنا هذا، فالمشاعر التى تتناولها لا تتغير مع تغير الزمان والمكان، كما أن العلاقة الشائكة بين ثقافات الشرق والغرب التى ترمز لها القصة لا تزال قائمة.
مع اكتشافه لتفاصيل حياة الفراشة أو «مدام بترفلاى» عرف شيئا جديدا عن نفسه أو بالأحرى تأكد منه، فهو ينتمى لفئة نادرة من البشر لا تتعدى نسبتهم 4% من سكان العالم يتمتعون بخاصية اتحاد الحواس، أى أشخاص لديهم قدرات حسية تميزهم عن غيرهم، فحواسهم الخمس أو بعضها تترافق. ويطلق على هذه الظاهرة (synesthesia) وهى كلمة مشتقة من اللاتينية وتعنى «الحواس مع بعضها»، فهؤلاء «المستشعرون» يمكنهم أن يروا الموسيقى ويستمعون إلى اللون، وأحيانا يرافق الكلمات طعم معين يملأ الجوف. الروائح والألوان والأصوات تتواصل، مثل أصداء تختلط من بعيد، كما يقول بودلير فى ديوانه «أزهار الشر»، فالشاعر الفرنسى كان هو نفسه من أصحاب الحواس المتراكبة، لذا كان يدعو للتعامل مع كل ما هو حسى وخيالى وليس ما هو مادى وملموس فقط. لم يكن الوحيد بين مشاهير المبدعين الذى تمتع بهذا التضافر والترافق بين الحواس، فالعديد من الفنانين والكتاب مثل فان جوخ وليست ورامبو وماتيس ونابوكوف وكورساكوف وكاندينسكى وإلينجتون وليدى جاجا وستيفى وندر يمتلكون هذه القدرة التى نجدها أيضا لدى الأطفال، إلا أنها عادة تختفى بعد سن معينة.
وقد بدأ الحديث عن هذه الخاصية منذ القرن الثامن عشر وتوالت الدراسات خلال القرن التالى ثم أهملت إلى مطلع القرن العشرين حتى اهتم بها علماء مثل كارل يونج وبعض علماء النفس الذين ينتمون للمدرسة السلوكية، بعدها اختفت مجددا إلى أن عاد الاهتمام بها خلال الثمانينيات، وعكف على دراستها المتخصصون فى علم النفس العصبى الذين يفحصون أداء الدماغ وتأثيره على التصرفات السلوكية والنفسية، إلى ما غير ذلك. وأوضحت الجمعية الأمريكية للترافق الحسى عام 2004 أن هناك 152 شكلا لتواصل الحواس، إذ تختلف التراكيب باختلاف الأشخاص، فى حين كانت الدراسات السابقة تقدرها بحوالى ثمانين شكلا، مع الإشارة إلى احتمال وجود مؤهبات جينية أو وراثية لمثل هذه الحالات النادرة.
•••
عادة يتميز معظم من يمتلكون هذه الخاصية بقدرة عالية على التحليل ويتمتعون بذاكرة جيدة. هم ليسوا بالضرورة من المشاهير فبعضهم فقط من هواة الفنون والآداب، قد تكون تخالطهم كل يوم دون أن تعرف مدى حساسيتهم، لأن غالبا الناس لا يجاهرون بمثل هذه الأمور حتى لا يتعرضوا للتنمر أو السخرية، لذا يصعب قياس وجودهم بيننا. الرجل الذى رأى فراشة بوتشينى بكل جمال المشهد والألوان كان يجلس إلى جواره آخر لم ينعم بالمشهد كاملا، لم تتأهب كل حواسه لملاقاة الموسيقى، لم يلتقط ذبذبات أصوات الآلات والكورال ويترجمها إلى ألوان وصور، ربما كانت هى نفسها التى داعبت خيال بوتشينى حين كتب الأوبرا قبل أكثر من مائة سنة، فالحواس تتواصل والأرواح أيضا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved