عدم انحياز للقرن الحادى والعشرين

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: السبت 2 أكتوبر 2021 - 8:35 م بتوقيت القاهرة

فى بداية العقد الثالث من القرن الحادى والعشرين صار واضحا الشق الرئيسى الذى يتشكل من حوله النظام العالمى. هو الشق الذى يفصل الولايات المتحدة عن الصين. الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب ومن بعده الرئيس الحالى جو بايدن حددا بشكل صريح أن خصمهم، إن لم يكن عدوهم، هو الصين. وفسر الأمريكيون كل تحركات الصين على أنها عدوانية حينا، ومخادعة حينا آخر، واستغلالية فى أحيان عديدة. فى بحر الصين الجنوبى، الصين تعتدى على حقوق جيرانها من الفلبين إلى فيتنام ونصبت الولايات المتحدة نفسها مدافعةً عن البلدان المشاطئة لبحر الصين الجنوبى فى مواجهة الصين. ولا بدّ من الاحتراس حتى لا توجه الصين عدوانيتها نحو تايوان لتقضى على استقلالها وتضمها إليها. والصين تنكرت لتعهدها بأن تحترم مبدأ البلد الواحد بنظامين، وبأن تحتفظ هونج كونج بنظامها السياسى المختلف عن نظام الحزب الشيوعى الصينى. والصين تدعم قدراتها العسكرية بما فى ذلك البحرية فى المحيط الهندى وهو ما لا يمكن أن يكون غير تعبير عن عدوانيتها. أما مبادرة الحزام والطريق فهى رغبة جلية فى تعديل بنية النظام الاقتصادى العالمى لصالح بيجين فضلا عن أنها وإن تخفت وراء المساعدة على تنشيط الاقتصاد العالمى وعلى تنمية البلدان النامية فى آسيا وأفريقيا فهى فى جوهرها استغلال لهذه البلدان. وهذا الاستغلال على أى حال يرجع إلى عقدين مضيا من الزمن على أى حال، منذ أصبح التزود بالطاقة والمواد الأولية من أفريقيا الهاجس الأول للصين. أما داخليا، فحدث ولا حرج. الولايات المتحدة تعتبر أن الحزب الشيوعى الصينى هو أس البلاء. هو ينكر على الصينيين حقوقهم السياسية ويحكمهم بالتسلط والسلطوية، وليس قمع الأيغور المسلمين فى شمال غربى الصين إلا أبلغ الأمثلة على ممارسات النظام السياسى الصينى العنيفة المنتهكة لحقوق الإنسان وحقوق الأقليات العرقية. يعرف القاصى والدانى كل الود أو غير الود الذى كان الرئيس ترامب وإدارته يكنانه للأفارقة واللاجئين والمسلمين وكل المغلوبين على أمرهم! لم يمنعه هذا من إبداء شديد التعاطف مع الأيغور. ذهب مايكل بومبيو وزير خارجية الرئيس ترامب إلى حد المناداة بتغيير النظام فى بيجين. الرئيس بايدن وإدارته كفا عن هذا النداء وإن لم يعتمدا مقاربة أقل تصادما، تحاول، مجرد المحاولة، التوفيق بين المصالح الأمريكية والصينية تجنبا لتصاعد التوتر والمواجهات فى القارة الآسيوية.
على العكس، بدعوى التحسب لعدوانية الصين، ضاعفت الولايات المتحدة من احتمالات مواجهتها معها. أولا وعلى حساب علاقاتها مع حليفتها فرنسا، حثت استراليا على إلغاء صفقة من الغواصات كانت قد عقدتها مع الأخيرة، وباعتها هى غواصات مدفوعة نوويا. بعدها بأيام انعقد اجتماع رباعى فى واشنطن ضم إلى الرئيس بايدن رؤساء وزراء اليابان والهند واستراليا وهو اجتماع لا يمكن أن يكون إلا موجها إلى الصين، فمعروف تاريخ كل من اليابان والهند مع الصين فضلا عن اختيار استراليا الواضح للمواجهة مع الصين بشرائها للغواصات الأمريكية. هذان التطوران فى أسبوع واحد يرفعان من حدة التوتر فى القارة الآسيوية وينمّان عن اتجاه خطير لو استمر الخوض فيه فإنه يمكن أن ينتهى بأوخم العواقب. هل يمكن لأحد أن يريد لآسيا فى القرن الحالى مصير أوروبا فى القرن العشرين، مصير طال الدول فى أغلب القارات منذ ثمانين عاما ويمكن فى هذه المرة أن يهدد البشرية جمعاء.
•••
منذ سنوات صدر كتاب لعالم السياسة الأمريكى جراهام آليسون بعنوان «فخ ثيوسيديدس» حجته هى أن قوة صاعدة، هى الصين، وقوة آخذة فى التراجع، مثل الولايات المتحدة، لا بدّ أن يصطدما عسكريا. استعار آليسون هذه الفرضية من المؤرخ الإغريقى ثيوسيديدس الذى فسر بها الحرب فى القرن الخامس قبل الميلاد فى بلاد اليونان بين أسبرطة المتراجعة وآثينا الصاعدة. عديدون من علماء العلاقات الدولية وجهوا انتقادات متنوعة لحجة آليسون مبينين أن كثيرا من الأمثلة التاريخية التى ساقها كبينات على سلامة حجته خاطئة، أساء هو فهمها. وعلى أى حال القوة العسكرية للصين إقليمية وهى لا تقاس بقوة الولايات المتحدة وتحالفاتها. من بين من فنّدوا حجة آليسون منظّر العلاقات الدولية الشهير جوزيف ناى، الذى استندنا إليه فى هذه المساحة منذ أسبوعين. ناى ممن يشددون على الترابط فى العلاقات الدولية وعلى الاعتماد المتبادل بين الدول الذى لا بدَ أن يدفعها إلى التعاون مع بعضها البعض ليستفيد الجميع أيا كان توزيع الفوائد فى أى لحظة معينة. غير أن «فخ ثيوسيديدس» هو منظور الأغلبية الساحقة من أعضاء مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية، سواء عن وعى أو بدونه، انتموا إلى الحزب الجمهورى أو الحزب الديمقراطى. هذا هو المنظور الذى يعتبر أن أى مكسب للطرف الأدنى مرتبة فى لحظة ما هو خسارة للطرف الأعلى مرتبة، وهو الولايات المتحدة. بالنسبة لهذه المؤسسة، أى صعود للصين هو بالتالى خسارة للولايات المتحدة، ولذلك فينبغى وقف هذا الصعود بأى شكل من الأشكال. ولإضفاء المشروعية على تصديها لصعود الصين، تصيغ خطابا ينسب إليها كل الموبقات.
منظور مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية خطير لأن أخطاءه متكررة ولأنه يتجاهل عن عمد أوجه الترابط والاعتماد المتبادل بين الولايات المتحدة والصين. نذكر مثالين اثنين فقط على هذه الأوجه. الولايات المتحدة تشكو من اتساع العجز فى ميزانها التجارى مع الصين، ولكنها لا تذكر أن كثيرا من وارداتها من الصين تنتجها استثمارات أمريكية فيها، وأنها مدخلات لإنتاج سلع تصنع بعد ذلك فى الولايات المتحدة. ولا تحسب الولايات المتحدة أن الإنتاج منخفض التكلفة نسبيا الوارد من الصين يسمح بتلبية جانب كبير من طلب المستهلكين الأمريكيين فى ظل التوزيع السائد للثروة والدخل. ثم تلتفت الولايات المتحدة عن أن الصين هى ثانى أكبر مستثمر فى أذون الخزانة الأمريكية بعد اليابان، هذا الاستثمار ناتج جزئيا على الأقل عن الفائض فى الميزان التجارى الصينى والعجز فى الميزان التجارى الأمريكى مع الصين، وهو استثمار يدعم الدولار الأمريكى فيمكِّن الأمريكيين من أن يعيشوا فوق المستوى الذى يسمح به الأداء الاقتصادى الأمريكى، مرة أخرى فى ظل التوزيع السائد للثروة والدخل الأمريكيين.
ليس المقصود مما سبق الإيحاء بأى ملائكية للصين، وإنما التشديد على خطورة الطرح الأمريكى، خاصة مع ما درجت عليه الولايات المتحدة منذ مطلع الخمسينيات من القرن العشرين من الانزلاق إلى نزاعات مسلحة عندما لم ترق لها أوضاع فى هذه البلد أو هذه المنطقة أو تلك.
يمكن أن يقال إن أوجه الترابط والاعتماد المتبادل كفيلة بتفادى أى مواجهة عسكرية بين الصين والولايات المتحدة، باعتبار أنها هى الحقائق الصلبة والمصالح المؤكدة. ولكنك إن بذرت المواجهة وغذيتها وعمقتها بعقد التحالفات وبحصار خصمك، فإنك قد تفقد تحكمك فى مسار المواجهة حتى ينحدر بك إلى الفخ الذى نصبته لنفسك.
•••
فى الوقت الذى بدأ فيه الاستعداد الأمريكى للمواجهة فى التكثف، كانت صربيا تنظم للاحتفال يومى 11 و12 أكتوبر القادمين بمرور ستين عاما على انعقاد أول مؤتمر لحركة عدم الانحياز فى سنة 1961 فى بلجراد التى كانت عندئذ عاصمة جمهورية يوغسلافيا الاتحادية الاشتراكية. بمرونتها وعدم تحولها إلى مؤسسة جامدة لعبت الحركة والدول الأعضاء فيها دورا أساسيا فى إرخاء التوتر فى النظام الدولى، بين الكتلة الغربية والكتلة الاشتراكية، لمدة ثلاثين عاما فيما بين إنشائها ونهاية الحرب الباردة. لأسباب متعددة كانت بعض دول عدم الانحياز قريبة من الكتلة الاشتراكية بينما كانت دول أخرى قريبة من الكتلة الغربية، ودول ثالثة فيما بين هذه وتلك، ولكن مجموع دول عدم الانحياز امتص المواجهة بين الكتلتين وباعد بينهما فى بنية النظام الدولى. بهذا المعنى، أسهمت الحركة فى الحفاظ على السلام العالمى فوجودها لم يقصر بنية النظام الدولى على المواجهة بين الكتلتين. هذه هى الخطوط العريضة للوظيفة التى اضطلعت بها حركة عدم الانحياز فيما يقرب من ثلث القرن العشرين.
القرن الحادى والعشرون فى حاجة إلى عدم انحياز جديد يتفق مع عصر العولمة الحالى؛ حيث تترابط الاقتصادات، وتنشط الشركات عبر الوطنية فى دول عديدة، وتمتد سلاسل القيمة فى نفس البلدان وغيرها. وظيفة عدم انحياز القرن الحادى والعشرين ستكون هى نفسها وهى خلق مساحة عازلة بين قطبى النظام العالمى القابعين على جانبى الشق الرئيسى فى النظام العالمى. فى هذه المرة، الخصم الرئيسى للولايات المتحدة هو الصين حلّ محل الاتحاد السوفييتى فى المنظور الأمريكى.
القائمون على دفع عدم الانحياز الجديد فى القرن الحادى والعشرين سيكونون مختلفين عن أبطال عدم الانحياز القديم. الهند فى وضعها الحالى مثلا ليست غير منحازة. ودول فى أمريكا الجنوبية يمكن أن تكون من رواد عدم الانحياز الجديد فمبادلاتها اليوم مع الصين واسعة النطاق ومعروفة حساسيتها تجاه الولايات المتحدة بينما هى لم تكن من دول عدم الانحياز القديم، فى بدايته على الأقل. وربما انضمت دول أوروبية يوما إلى عدم الانحياز الجديد تحقيقا لمصالحها من جانب، ولانصراف الولايات المتحدة عنها وتوجهها المتزايد نحو آسيا من جانب آخر. ويمكن للفاعلين من غير الدول مثل الشركات عالمية النشاط ولمجموعات العلماء والأساتذة والمثقفين المتمسكين بالتعاون العالمى أن تكون لها أدوار فى عدم الانحياز الجديد.
لن ترضى مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية، فى البداية على الأقل، عن عدم الانحياز الجديد، وهى ستخير الدول التى تتبعه بينها وبين الصين، بنفس الشكل الذى تحرص به على ألا تأخذ الدول بالتكنولوجيا الصينية لشبكات الجيل الخامس الخلوية على حساب التكنولوجيا الأمريكية. هذا هو ثمن حرية الاختيار الذى سيكون على الدول الداعية لعدم الانحياز للقرن الحادى والعشرين أن تدفعه من أجل مصالحها ومن أجل السلام العالمى.
هل تكون مصر من بين هذه الدول الداعية؟
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved