الخريف.. ولادة من رحم الصيف

خولة مطر
خولة مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 2 نوفمبر 2010 - 10:05 ص بتوقيت القاهرة

 كيف أودعوك هذه الصفات مجتمعة حتى أصبحت أنت والحزن أو الشيخوخة ــ بمعناها النهائى وليس بفكر النضج ــ مرتبطا. يقولون «خريف العمر» وحل الخريف فتساقطت أوراق الشجر تلك التى كانت حتى القريب تعنى الكثير من الأمل.. السعادة.. من البهجة النادرة. ربطوا الخريف كفصل بكل تلك الصفات كما هى حال الصور النمطية التى توضع لبشر وأجناس وأنماط وحتى لطيور وحيوانات.. وإلا فلماذا البوم عندنا تعنى السواد القاتم بينما هى إلهة الأمل عند آخرين.. الخريف يعنى أن تجدد الأشجار نفسها فتسقط ورقا لتنبت ثمرا أو أزهارا موردة فى فصول أخرى.. هى أن تزرع البذرة لتجنى ثمارها حتى وبعد حين أو ربما تزرع ليقطف الآخرون.. الخريف هو أن تطوى صفحة الصيف الساخن لتلتحف دفء شمسه، أى شمس الخريف.

هو أن تنعشك بضع زخات مطر أو نسمة هواء باردة تلامس وجهك فتحمر وجنتاك بردا لا خجلا.. الخريف أن تلتحف «كنزة» من الصوف الناعم بعد أن كنت تتعرى من كل ما فوق الجلد.. الخريف هو النضج المعتق فى عمر السنة.. أن تقترب من البحر لا لتلامس ماءه المثلج بل أن تنظر منه لعالم واسع وتراوح أمواجه أمامك تبدأ عالية كالجدار العازل وما تلبث أن تتحول إلى زبد ككل الهموم والمشاكل فى الكون تحل على النفس والقلب فتتسارع دقاته وما إن تمر لحظات حتى يعود كما كان يدق معلنا انتصار الحياة.

الخريف بدء نهاية فصل التخزين للنملة.. يخزن الإنسان جزءا من دفء لا يزال عالقا منذ فصل الصيف قبل أن يحل الشتاء فنعدو بحثا عنه.. هو عودة بعض الطيور المهاجرة ورحيل أخرى.. بعضها يبحث عن دفء والآخر عن بيت يبدأ فى بنائه قشة قشة فما إن يرتعش بردا يعود له ملاذا آمنا.. الخريف أن يبدأ ذاك الذى يقولون «خريف العمر» عنه فى تفريغ مخزونه من تجارب تراكمت طبقة تلو الأخرى على مر كثير من الفصول المتعاقبة.

هو أن ينثر المخزون رحيقه فينتشى الكثيرون ومنهم أيضا من هم لا يزالون يتخبطون فى «ربيع العمر» يبحثون عن تجربة خريف تمسك بيدهم لتدلهم الطريق.. ليس كل ذاك المهمل فى زاوية من الذاكرة سوى خزينة ثرية بتجارب متعاقبة يعود لها كثيرون لضحكة هنا وفرحة هناك.

الخريف هو اللغز يقول جزء من الأحجية وعليك التفكير والتدبير فى خواتمها.. هو وليد الصيف الطويل على شواطئنا الممتدة على ضفاف الجسد المتعب!!!! هو نهاية الاغتسال بملح البحر وبداية طقوس الاغتسال بمياه السماء.. فللأرض ماؤها وللسماء أيضا مياه كثيرة ما تلبث أن تغسل الدنيا، تنعش الأرض العطشى فتنبت بذرة فتنبت زنبقة تنشر عبقا لا يماثله عبق.. إذن فهو، أى الخريف، خالق الشجرة والزهرة والعبق.

الخريف هو عودة الروح للمدن المتوهجة بغضب الشمس والطبيعة.. هناك عكس هنا أو أى مكان فالخريف يعنى بداية موسم الحياة فى مدن الموت الصيفية.. يعود المهاجرون حتى الطيور منهم إلى أرصفة الشوارع المكتظة.. أحدهم يفرش تحت شجرة وآخر بالقرب من تلاحم موجة بأخرى.. يحتفون هم بإيقاف أجهزة التكييف وعودة الروح لرياح الآلهة..

 

وفى بقعة أخرى يتحلقون على حواف أنهارهم حيث يسير العشاق فى ساعة المساء الأولى ملتصقين معللين السبب برودته التى تسرى فى الأجساد اليافعة! هو من يعيد للطبيعة مجراها فى زمن الحجر على العقل والفكر والجسد وانفعالات الأيام الأولى من رعشة تصيب القلب فما تلبث أن تنشر عدواها على كل الجسد فتنتقل من شريان إلى آخر حتى تصل الأطراف المثلجة إما بفعل الخريف القادم توا وإما بفعل النظرة الناطقة بحكايات تبدأ من ألف ليلة وليلة ولا تنتهى بليل الخريف الطويل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved