(... طيرا أبابيل)

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 2 نوفمبر 2011 - 9:01 ص بتوقيت القاهرة

 تخيلت مشهدا يتجسد حقيقة واقعة بعد أقل من خمسة أعوام تفاصيله كالآتى: ندوة أو حلقة نقاش يحضرها سياسيون معارضون، أو اجتماع يشارك فيه قادة نظاميون لقوات احتلال أو قادة لقوات مقاومة، أو لقاء ينظمه ويحضره ناشطون يخططون لإشعال ثورة أو إثارة شغب. وبينما الحاضرون منشغلون بالتدبير والتفكير فاتهم التأكد من إغلاق النوافذ والمداخل، فتسربت إلى المكان أجسام طائرة بعضها كالذباب والآخر كالبعوض. وفى أقل من لمح البصر ينكفئ أحد الحاضرين على المائدة قتيلا، أو يسقط من فوق مقاعدهم قتلى عدد كبير من الحاضرين. ولن يدرك المشاركون الباقون على قيد الحياة حقيقة ما حدث إلا بعد تشريح الجثث باستخدام تقنيات حديثة فى تحليل الدم والأنسجة.

 

يصدر بيان بعد أيام من وقوع الحادث يعلن أن القتلى سقطوا نتيجة تعرضهم لسموم بثتها فى أجسامهم صواريخ ضئيلة الحجم أطلقتها طائرات بدون طيار، كل طائرة منها فى حجم الذبابة أو البعوضة. الطائرة الواحدة مزودة بصاروخين وآلة تصوير وجهاز إرسال واستقبال، تدخل إلى الغرفة عن طريق فتحة فى النافذة أو الباب. وفور دخولها تقوم بتصوير المكان والحاضرين وترسل الصور إلى القاعدة الجوية التى انطلقت منها وتستلم خلال ثوان تعليمات تحدد لها الهدف المطلوب تصفيته فتتوجه نحوه وتطلق فى اتجاهه صاروخا أو صاروخين ثم تستدير لتعود من حيث دخلت.

 

إذا قدر أن يحدث هذا المشهد فى القاهرة مثلا ففى الغالب سيكون المطار الذى انطلقت منه «الطائرة ــ الحشرة» فى قاعدة جوية فى ولاية نيفادا الأمريكية أو فى دولة عربية خصصت بعض أراضيها لخدمة السلاح الجوى الأمريكى أو فى قاعدة إسرائيلية فى صحراء النقب، أو فى القاعدة الجوية التى انتهى الأمريكيون من إقامتها الأسبوع الماضى فى منطقة آربا مينش بإثيوبيا حسبما نشر فى الموقع الإلكترونى لهيئة الإذاعة البريطانية وصحيفة واشنطن بوست. هناك على هذه المسافة البعيدة يقف عدد من الخبراء والعسكريين فى خدمة الطائرة ــ الحشرة، بينهم من يقرأ الصور ويختار الهدف، وفيهم من يرسم الأبعاد والمسافات ويصدر التعليمات إلى الطائرة ــ الحشرة بإطلاق الصاروخ أو تفجير نفسها فى الهدف، ومنهم من ينتظر دوره ليتأكد من سلامة العملية وإصدار الأمر للطائرة بالعودة إلى قواعدها أو بالانتحار فى الموقع إن لزم الأمر.

 

●●●

 

لم يعد هذا المشهد من صنع أوهام أو خيالات خاصة بعد أن ظهرت على مسارح التدريبات العسكرية طائرات بدون طيار يمكن حملها على الكتف يبلغ طول الطائرة إذا فتح جناحاها 17 قدما وتحمل صاروخا يزن حوالى 10 أرطال، أى ما يعادل أقل من خمسة كيلو جرامات. تنتج هذه الطائرة شركة كاليفورنيا الشمالية وأطلقت عليها اسم ARCTURUS. بينما تعلن شركة AEROVIRONMENT أنها انتحت هى الأخرى طائرة تتحول بالتوجيه المناسب فتصبح صاروخا. حجم هذه الطائرة لا يتجاوز حجم مطواة الجيب وتفتح مثلها. شركات أخرى تنافس اليوم على إنتاج «الروبوت الكيماوى»، وهو عبارة عن طائرة «زاحفة» تتلصص على الهدف من خارج المكان عن طريق ثقب أو شرخ فى الحائط. يتعرف الروبوت على الهدف وينقل إحداثياته إلى قيادته فى انتظار توجيهاتها. وعنما تصله التوجيهات بالهجوم يتحول كالسحالى إلى حجم مناسب ويتحرك زاحفا ليدخل إلى المكان عبر ثقب أو شرخ، وفور دخوله يعود إلى حجمه الأصلى ليهاجم بكل قوته وأسلحته أهدافه التى حددها له الفنيون فى مراكز القيادة والتوجيه.

 

●●●

 

يقول ميتشيل زانكين الباحث فى وكالة مشاريع البحوث المتقدمة فى الولايات المتحدة إن قادة عسكريين جددا يتدربون الآن فى مدرسة الدراسات العليا التابعة للسلاح البحرى فى قاعدة مونتيرى بكاليفورنيا على ممارسة هذا الفن الحديث من فنون الحرب. يقول أيضا :

 

إن التاريخ العسكرى حافل منذ القدم بجهود تهدف إلى تشجيع إنتاج أسلحة واستراتيجيات تساعد على أن يجرى الاقتتال عن بعد، أى تفادى الاشتباك أو الالتحام المباشر بقوات العدو. فالحرب عن بعد تسمح بتخفيض عدد الجنود فضلا عن أنها تحقق هيمنة أكبر للطرف صاحب القدرة الأوفر على إدارة الحرب عن بعد وتقلص النفقات. وقد ازدادت أهمية هذا التوجه فى السنوات الأخيرة بعد أن بلغت تكاليف الجندى الأمريكى الواحد أكثر من مليون دولار سنويا. وازداد فى الوقت نفسه الاهتمام بتشجيع البحوث حول إنتاج طائرات بدون طيار تمهيدا لوضع خطط لتخفيض أعداد المجندين.

 

●●●

 

لم يفلت هذا التوجه الجديد فى فنون الحرب الحديثة من انتقادات أهمها أنه لا يحقق مبدأ «عدالة الحرب» حسب رأى معهد بروكنجز الذى عرض إحصائيات تؤكد أنه يسقط فى المتوسط عشرة مدنيين قتلى مقابل سقوط إرهابى واحد نتيجة غارة جوية من طائرة بدون طيار. ويقول رونالد آركين من معهد جورجيا للتكنولوجيا إن الجيش الأمريكى فى حاجة إلى إنتاج «طائرة بدون طيار» تتميز بطيب المعشر وحسن الأخلاق، لا تقتل إلا بعد أن تتأكد تماما من الهدف ولا تقتل بدافع الانتقام فقط». من ناحية أخرى يعترض إدوارد باريت أستاذ أخلاقيات الحرب فى الأكاديمية البحرية فى أنا بوليس على الاهتمام الشديد بإنتاج طائرات من دون طيار لخشيته من أن النقص فى خسائر الأرواح البشرية نتيجة هذا الاستخدام الآمن لطائرات بدون طيار سيرفع عن النشطاء وجمعيات حقوق الإنسان مسئولية السعى لايقاف الحروب والدعوة إلى السلام.

 

تعلمنا أن التقدم التكنولوجى طريق فى اتجاه واحد، وأذكر أننا لم نأبه كثيرا حين استخدمت القوات الأمريكية طائرات بدون طيار للتجسس قبل أن يجرى تطويرها لتستخدم فى القتل. كان عدد الطائرات المخصصة للقتل عند نشوب الحرب ضد العراق لا يتجاوز 170 طائرة. الآن نعرف أن العدد وصل إلى 7000 طائرة، والآن أيضا نسمع أن مطار قندهار هو المطار الأشد ازدحاما بالحركة فى العالم، إذ تطير منه طائرة بدون طيار Drone كل دقيقتين.

 

●●●

 

كانت الطائرة بدون طيار خاصة الطائرة ــ الحشرة، إحدى عجائب الخيال العلمى فى بدايات القرن العشرين. هى الآن على وشك أن تصبح واقعا يمهد لعصر تنعدم فيه حاجة الجيوش إلى سلاح جوى وطيارين عسكريين، وتظهر فيه الحاجة إلى خبراء ينظمون حملات جوية تنفذها عشرات الأسراب، كل سرب منها يتكون من آلاف الطائرات ــ الحشرات. الحملة الواحدة تكفى للقضاء على تجمعات بشرية كثيفة، كالتجمعات المليونية على سبيل المثال، بأقل تكلفة ممكنة وبدون خسائر فى الممتلكات والمرافق العامة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved