السفر عبر المحطات الأشباح - سور برلين وأنا (٥)

حسام السكرى
حسام السكرى

آخر تحديث: الأحد 3 نوفمبر 2019 - 9:35 ص بتوقيت القاهرة

عبرت تشكبوينت تشارلي مرة أخرى في طريق العودة. خرجت أو بالأحرى دخلت من خلال السور إلى برلين الغربية. ألقيت نظرة عابرة على المنصة المرتفعة المقامة على الناحية الغربية والتي يقبل السياح على تسلقها لاستراق النظر إلى الجانب الشرقي. مشهد ساخر. سياسيا هم يتأملون حياة شعب محتجز داخل أيديولوجية، أما في الواقع فكانوا ينظرون من داخل القفص إلى خارجه!

عبرت بجوار المتحف الذي يحكي قصص الهاربين إلى داخل برلين الغربية عبر السور. الأرقام المسجلة تقول إن مئة ألف حاولوا نجح منهم ما يقرب من خمسة آلاف شخص. بعض من يعرض المتحف قصصهم، ضغطوا أجسادهم في أماكن غير مألوفة في السيارات، أو حفروا نفقا تحت السور، أو استخدموا منطادا وطاروا فوقه.

كان القلق يعتصرني على صديقتي مشتلد. كلما مضى الوقت داهمتني سيناريوهات مفزعة. افترضت منذ فرقنا الجنود ثم طردوني عند نقطة عبور فريدريشستراسه، أنها عبرت إلى الشرق. لذا كنت أؤمل في لقائها صدفة بعد عبوري من معبر آخر. يحتمل بالطبع أن تكون قد منعت من العبور فعادت إلى المنزل؟ لكن ألا يمكن أن تكون قد احتجزت في الشرق لسبب أو لآخر؟ ألا يحتمل أن تكون قد اشترت من سوق الغرب السوداء ماركات شرقية فاكتشفوها على الحدود أو ضبطت بعد عبورها وهي تحاول تبديل ماركات غربية مع أحد عملاء الأمن المتنكرين؟

توجهت إلى محطة المترو. أخرجت من جيبي خريطة الخطوط لأتأكد من الطريق. فتحتها فوجدتها الخريطة الخطأ. خريطة مترو حصلت عليها في برلين الشرقية يختفي منها الغرب تماما وتمثله مساحة بيضاء إلى اليسار. وجدت خريطة أخرى غربية كنت أحتفظ بها مثلت فيها مسارات المترو الغربية بخطوط ملونة سميكة. أما الخطوط السوداء الأقل كثافة التي تمتد خلف خط رمادي متعرج يمثل السور، فهي خطوط الشرق.

كثير من الغرائبيات يحدث عندما تشطر مدينة تأسست في القرن الثالث عشر بعد سبعة قرون من تأسيسها. وما حدث لشبكة مترو برلين التي افتتحت عام ١٩٢٧ كان أغرب. انفصلت الشبكة إلى شبكتين. انقطعت الخطوط الممتدة عبر الشطرين وتوقف المترو في كل مدينة عند حدودها باستثناء واحد هو نقط عبور فريدريشستراسه داخل الشرق والتي يصل إليها أكثر من خط غربي.

الأغرب كان ظهور "المحطات الأشباح". بعض خطوط المترو الغربية كانت تمر داخل حدود برلين الشرقية تحت الأرض عبر محطات لم يكن يسمح للمترو بالتوقف فيها. كانت القطارات تبطيء فتعطي المسافرين فرصة لتأمل الرصيف المهجور المغمور بضوء أصفر باهت.

كانت أرصفة هذه المحطات مراقَبة بشدة بواسطة جنود لا تطالهم عيون المسافرين، حتى لا تتحول المحطة إلى نقطة عبور أو تسلل أو تهريب. المداخل الخارجية كانت محاطة بالأسلاك الشائكة أو مغلقة بالخرسانة أو محمية بحراس مدججين بل ويقال إن بعض أجزائها كانت مكهربة وقاتلة. كانت هذه بداية ظهور كلمة جايستربانهوف أو "المحطة الشبح" التي ترجمت إلى اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات لتصف محطات متوقفة عن العمل تعبرها أحيانا القطارات دون أن تتوقف. شكلت هذه المحطات بأجوائها الغريبة مادة خصبة للروائيين وصانعي أفلام الرعب والجاسوسية.

ركبت الخط السادس محطة واحدة غيرت فيها إلى الخط الرئيسي الأخضر. خرجت بعد ثلاث محطات إلى شارع كورفورستنشتراسه حيث كنت أعيش في البناية رقم٩. تجاوزت مدخل البناية بسرع وهرعت لشقة مشتلد في الطابق الأول. طرقت الباب وانتظرت.

هل تفتح؟

(يتبع)

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved