دوامة التاريخ
داليا شمس
آخر تحديث:
الأحد 2 نوفمبر 2025 - 1:25 ص
بتوقيت القاهرة
قالها كارل ماركس: «التاريخ يعيد نفسه، أولا كمأساة ثم كمهزلة»، فالعوامل السياسية والبشرية والاجتماعية متكررة وبالتالى نجد أنفسنا دائمًا وعبر العصور فى دوامة من المساخر والصراعات التى لا تنتهى، والعالم لا يتعلم من أخطائه. هذا ما يثبته ويؤكد عليه مخرج الوثائقى «أورويل: 2+2=5»، راؤول بيك الذى ولد فى هاييتى عام 1953. استخدم الأخير كما هائلًا من الصور الأرشيفية وأخرى إخبارية مرتبطة بالأحداث الجارية ومقاطع من أفلام سبق أن تناولت أعمال المؤلف الإنجليزى الشهير جورج أورويل ليشرح ما يدور حولنا بالرجوع إلى الماضى. مزج ببراعة، وبمساعدة المونتاج الفذ الذى قامت به ألكسندرا شتراوس، بين التطورات السياسية فى جميع أصقاع الأرض وبين أفكار أورويل وتحليلاته الصائبة، فبدا الكاتب وكأنه يعلق عليها بصوته من خلال نص حرره قبل حوالى ثمانين عاما بعنوان «لماذا أكتب؟»، وقرأه فى الفيلم بأداء رصين الممثل داميان لويس.
جاء فى هذا النص البديع الذى أطلعنا المخرج على بعض أجزائه: «أكتب لأن هناك كذبة أريد فضحها. حقيقة أريد إلقاء الضوء عليها، وهمى الأول هو جذب المُتلقين». وهو ما يفعله المخرج والناشط الحقوقى والصحفى، راؤول بيك، الذى شغل منصب وزير الثقافة ببلاده فى الفترة ما بين 1995 و1997، حين يكشف العديد من الأمور ويربط بينها ويفكك معنى وتداعيات الاستبداد عبر العصور والقارات. يشرح آليات مثل تزييف المعلومات والتضليل الإعلامى وتشويه الأفراد وتجريدهم من إنسانيتهم التى تؤدى جميعها إلى فرض هيمنة النظم الاستبدادية وإحكام قبضتها على الشعوب. يظهر فى الفيلم تقارب وأحيانًا تماثل بين عبارات نطق بها ستالين وهتلر، ثم حاليا بوتين وترامب. ونقارن معه بين فظائع الحربين العالميتين وبين تبعات الحروب الدائرة حاليًا فى غزة وأوكرانيا والسودان ومن قبلهم العراق وميانمار، على سبيل المثال لا الحصر.
يوضح المخرج أيضًا بلفتات ذكية وسريعة ما تشهده ديمقرطيات الغرب من تغيير فى مساراتها حتى صارت تميل أكثر فأكثر نحو الشمولية. ويستدعى قرائن من أعمال أورويل السابقة لعصرها، إذ تنبأت بالكثير من الأحداث قبل وقوعها بزمن، ويفعل ذلك بدايةً من عنوان الفيلم "أورويل: 2+2=5"، فى إشارة لتفصيلة من رواية "1984"، حين يتم تعذيب أحدهم فى السجن حتى يعترف أن "2+2=5" من فرط الهلع والخوف.
• • •
كل ذلك كان من الممكن أن يصيب المشاهد بالتشتت لكن المخرج والمونتيرة يمسكان جيدًا بخطوط دراما الكوكب، فراؤول ديك يشبه أورويل نفسه فى العديد من النقاط، أولها أنه يهتم بالجانب الفنى وجاذبية الشكل، وهما أساسيان لكى تصل وجهة نظره وأفكاره السياسية، ما حرص عليه أيضا أورويل الذى ذكر فى مؤلفه صغير الحجم «لماذا أكتب؟»: «أكثر ما رغبت به هو أن أجعل من الكتابة السياسية فنًا». لذا يعتبر واحدًا من أعظم كُتاب المقالات. يجمعه أيضًا بالمخرج كثرة الأسفار والترحال، فجورج أورويل (واسمه الحقيقى إريك آرثر بلير) ولد عام 1903 فى الهند وتنقل بين بريطانيا وأماكن مختلفة فى جنوب شرق آسيا، أما راؤول ديك فقد عاش بين إفريقيا وأوروبا وشغل العديد من الوظائف، مثله مثل المؤلف الشهير الذى عمل كضابط شرطة فى بورما (ماينمار حاليًا)، وفى قسم الدعاية السياسية (البروباجندا) بمحطة بى بى سى خلال الحرب العالمية الثانية وشارك فى الحرب الأهلية الإسبانية وناهض الفاشية والإمبريالية والستالينية واختلط بطبقات اجتماعية مختلفة.
• • •
أراد المخرج الذى حظى بفرصة الاطلاع على الأرشيف الكامل لأورويل أن نعيد اكتشافه معه، فلا نكتفى باختزال مسيرته فى موقفه من ستالين كما جاء فى روايته «مزرعة الحيوانات»، إذ حرص البعض على ذلك بغرض توظيف أفكاره فى اتجاه معين أثناء الحرب الباردة. حرص راؤول ديك على أن يؤكد أن أراء الكاتب وتحليلاته أشمل بكثير من أن يتم اختصارها فى أنظمة محددة ولحظة بعينها، فهى صالحة لكل زمان ومكان، بل ويمكن اعتباره من أهم الذين تناولوا ديناميات الحكم الشمولى وتطوراته. لذا من خلال الفيلم نلاحظ أننا حاليًا بصدد متحورات جديدة لفيروس بالغ القِدم. نتجول بسهولة، على مدى ساعتين، بين مؤلفات أورويل خاصة "1984" و«مزرعة الحيوانات» و«لماذا أكتب؟» و«الحنين إلى كتالونيا»، فى حين يبدأ الوثائقى بالأيام الأخيرة فى حياة الكاتب، فنتابعه وهو يحاول إنجاز روايته العظيمة «1984»، وهو فى صراع مع المرض فى إحدى مصحات مرض السل بجزيرة «جورا» قبالة الساحل الغربى لاسكتلندا، فى نهاية أربعينيات القرن الماضى. ثم تختلط تفاصيل حياته بوقائع رواياته بالأحداث الجارية، دون كلل أو ملل، ما يذكرنا بفيلم وثائقى سابق أنجزه المخرج عام 2016 عن جيمس بالدوين، الكاتب الأمريكى الناشط فى مجال الحقوق المدنية، وكان بعنوان «أنا لست عبدًا لك» (I m not your negro). وهو له باع طويل فى تناول الشخصيات العامة والتاريخية مثل كارل ماركس وباتريس لومومبا.
يحاول فى كل مرة أن يربط بين الماضى والحاضر، وبين أماكن متفرقة حول العالم، فهو على قناعة تامة أن هناك رابطًا قويًا بين كل ما يدور على الأرض، وأننا أمام تاريخ واحد عامر بالتفاصيل ويجب إعادة تجميع أجزائه المختلفة لكى نفهم اللعبة. الفيلم تم عرضه أخيرًا فى مهرجان الجونة وحاز جائزته البرونزية لأحسن فيلم وثائقى طويل.