حكاية «محمود حسين!»

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: الأحد 2 نوفمبر 2025 - 1:25 ص بتوقيت القاهرة

ربما كانت هذه المرة الأولى التى أقترب فيها من أفكار الثنائى المصرى بهجت النادى وعادل رفعت، اللذين يؤلفان كتبهما المشتركة باللغة الفرنسية تحت اسمٍ مستعار هو «محمود حسين»، عندما شاهدتُ بالصدفة فى عام 2019 برنامجًا يتحدثان فيه على قناة فرنسا 24.

كان البرنامج بعنوان «محاور» من تقديم وسيم الأحمر، أما موضوع الحوار فكان حول كتابهما «ثوار النيل.. تاريخ آخر لمصر الحديثة». جذبنى منهج الكتاب الذى يسرد تاريخنا من وجهة نظر المحكومين والثائرين، بقدر ما شُغفتُ بهذه الصداقة الممتدة بين المؤلفين، وبتلك الطريقة الهادئة المتواضعة لحديثهما، وتلك الروح المصرية العميقة التى تعلن عن نفسها فى عاميةٍ ناصعة، لم تغيّر منها سنوات الهجرة الطويلة.

لعلك تدرك الآن مدى سعادتى بصدور كتاب عن دار الشروق بعنوان «محمود حسين كما عرفته»، تأليف الكاتب والناقد سمير غريب، متضمنًا سيرة بهجت النادى وعادل رفعت فى شكلٍ مكثف، وعرضًا سريعًا لمؤلفاتهما. أتمنى أن يكون هذا الكتاب مقدمةً لـ«سيرة موسّعة» أظن أن الرجلين جديران بأن تُكتب عنهما، أو لعله تحريضٌ بأن يقوما هما، تحت اسمهما المستعار (محمود حسين)، بكتابة هذه السيرة الذاتية.

لا بد من أن أشير أيضًا إلى أن دار الشروق أصدرت من قبل ترجمةً لكتاب «ثوار النيل» إلى العربية تحت عنوان «صحوة المحكومين فى مصر الحديثة من رعايا إلى مواطنين من 1798 إلى 2011»، وقد قام بترجمة هذا الكتاب المهم د. محمد مدكور.

أما كتاب «غريب»، بمزيجه المشوق عن صداقة مؤلفه الشخصية مع محمود حسين، وبما يقدمه من تعليقاتهما، وبعض النصوص التى تُنشر لأول مرة، وتحليله لمشروع محمود حسين من خلال كتبه المنشورة بالفرنسية، فضلًا عن الإشارة إلى كتابين بالعربية لم يُنشرا بعد، فقد أعادنى من جديد إلى فكرةٍ أدافع عنها منذ سنوات، وهى أن العقول المصرية التى كتبت بلغاتٍ أخرى غير العربية، نثرًا وشعرًا وفكرًا وفلسفة، تُعد جزءًا أساسيًا من تاريخنا الثقافى والمعرفى المصرى. ولذلك يجب أن تُترجم تلك الكتب وتُناقش، مثلما نناقش ونهتم بالأعمال الصادرة باللغة العربية.

يزيد على ذلك فى حكاية محمود حسين أمران:

أولهما: مسألة كتبهما المشتركة، التى تعنى حرفيًا «التفكير والكتابة المشتركة»، أو كما يُقال «الكتابة بأربعة أيدٍ»، وليس مجرد كتابة فصول منفصلة لاثنين من المفكرين. إنها حالة عصفٍ ذهنى مشترك؛ تفكيرًا ومناقشةً، ثم كتابة. بل إنهما – كما يذكر غريب – حصلا على درجة الدكتوراه معًا برسالة واحدة نوقشت فى جامعة السوربون، بعد ثمانى سنوات من هجرتهما واستقرارهما فى فرنسا عام 1966. هذه حقًّا ظاهرة جديرة بالدراسة، لا تعنى التطابق الكامل، ولكنها دالة على الحوار المثمر والتكامل الخلّاق.

أما الأمر الثانى، فهو تاريخ الرجلين، سواء على المستوى الشخصى، أو فيما يتعلق بالحصاد المعرفى المهم والمتنوع. رفض محمود حسين (بهجت وعادل) كتابة سيرته الذاتية بدعوى أنها «غير مهمة»، بينما أراها تمثل سيرة جيلٍ ووطن، وسيرة تحولات فكرية وطبقية أيضًا، وسيرة علاقة إنسانية فريدة ونادرة.

بهجت النادى ينتمى إلى أسرة دمياطية، نزح الأب إلى القاهرة للحصول على الدكتوراه من الجامعة المصرية، درس بهجت الطب فى جامعة عين شمس، وعرف السجن والتعذيب بسبب انتمائه الشيوعى. بينما ينتمى عادل رفعت إلى أسرة يهودية سكندرية، عرف أيضًا الشيوعية والسجن والتعذيب، ودرس فى كلية الآداب، أسلم ولم يهاجر مع أسرته، لكنه هاجر بعد فترة إلى فرنسا.

تعرف بهجت وعادل فى مصر، وكان بهجت أكبر بعامين. والاثنان من مواليد الثلاثينيات من القرن العشرين، وجيلهما شاهدٌ على تحولات مصر الكبرى فى هذا القرن. أما حياتهما فى فرنسا، وحصولهما على الجنسية الفرنسية، فلم تغيّر من اهتمامهما بمصر والعالم العربى، بل إنهما قدّما كتبًا مهمة عن الإسلام، وأعدّا سلسلة أفلام تسجيلية مميزة عن السنوات الذهبية للحضارة الإسلامية.

توجد فى قائمة مؤلفات محمود حسين – وهو اسمٌ يشبه أسماء المصريين العاديين، فرضته رغبة ناشر بأن يكون الكتاب باسم شخص واحد لا باسم شخصين – دراساتٌ مهمة عن تحليل الصراع الطبقى فى مصر بين عامى 1945 و1968، وعن التحديات التى تواجه العرب فى الحاضر، وكتابٌ عن الفرد والحرية فى العالم الثالث، ودراسة مختلفة عن حملة بونابرت فى مصر، والكتاب الضخم «السيرة.. نبى الإسلام كما يرويه أصحابه وصحابته»، وكتاب «التفكر فى القرآن»، وكتاب «ما لم يقله القرآن»، وكتابٌ مهم بعنوان «المسلمون فى تحدى داعش»، بالإضافة إلى روايةٍ بعنوان «تحدى الآلهة» فيها أصداء من سيرة الماضى فى مصر، وكتاب «ثوار النيل» سالف الذكر، وكتابين بالعربية لم يُنشرا بعد؛ أولهما بعنوان «إسلاميات»، والثانى رواية بعنوان «وتوفى رسول الله».

أعتقد أن كل هذا الحصاد جديرٌ بترجمة ما لم يُترجم منه، وعرض سمير غريب لما يتضمنه محفّزٌ جدًا على الاهتمام، خاصة أن محمود حسين يُعنى بالمنهج والتحليل، ويعتمد على مراجع وأرشيفات متنوعة، وينحاز دومًا إلى الحرية.

وبينما كانت فكرة الطبقات محوريةً فى الكتاب الأول له، فإن الفرد ودوره وتأثيره ظهر بقوةٍ فى الكتابات التالية، كما أن تلك الدراسات المهمة عن الإسلام وتاريخ المسلمين وحضارتهم بمثابة إعادة قراءة مثمرة للماضى، من أجل الحاضر والمستقبل، ولمواجهة التحديات الجديدة والراهنة.

أعجبنى فى كتاب سمير غريب عن «محمود حسين» أنه انطلق فيه بحريةٍ جديرةٍ ببطلى حكايته، وأن مزيج الفكر والصداقة والأيديولوجيا، ومصر وفرنسا، قد صنع – فى النهاية – لوحة ملونة مدهشة، وحضور شخصيات مصرية مثل خالد محمد خالد، والمفكر محمد سيد أحمد، والمحامى على الشلقانى، والانتقالات الفكرية والزمانية والمكانية، وحضور اليوميات المكتوبة، والرسائل الإلكترونية، كل ذلك منح الكتاب حيويةً بالغة، بمثل حيوية وأفكار محمود حسين.

أتمنى أن تفتح هذه السيرة المكثفة أبواب هذا العالم الضخم «الحقيقى جدًا» الذى اختفى بطلاه لسنوات طويلة تحت اسم مستعار.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved