مشروع «ريفيرا غزة» لا يزال على الطاولة!
قضايا فلسطينية
آخر تحديث:
الأحد 2 نوفمبر 2025 - 1:30 ص
بتوقيت القاهرة
منذ انتهاء الحرب الأخيرة على غزة، تتزايد المؤشرات على أن الولايات المتحدة لا تنظر إلى القطاع من زاوية إنسانية أو سياسية فحسب، بل من منظور اقتصادى استثمارى طويل المدى. فخلف الدعوات الأمريكية المتكررة إلى «إعادة الإعمار» و«إدارة مدنية جديدة»، يختبئ مشروع أوسع يهدف إلى وضع غزة تحت وصاية اقتصادية أمريكية – إسرائيلية، تمهيدا لتحويلها إلى ما يشبه «ريفييرا غزة»، وفق الرؤية التى صرح بها ترامب وصهره كوشنير وعدد من مستشاريه سابقا.
شخصية دونالد ترامب، بما تحمله من عقلية تجارية صِرفة، تعكس جوهر التفكير الرأسمالى الأمريكى الذى ينظر إلى الجغرافيا والسياسة بعيون المستثمر لا السياسى. فترامب الذى طرح مشروع «ريفييرا غزة»، ربما توقف عن الحديث عنه علنًا، لكنه لم يُزِل الملف من على طاولته. فالرجل لا يتعامل مع القضايا الدولية بوصفها نزاعات معقدة أو صراعات هوية، بل كفرص تجارية يمكن تحويلها إلى أرباح واستثمارات ضخمة. بالنسبة له، غزة ليست قضية إنسانية أو حتى سياسية، بل أرضٌ بكلفة تشغيل منخفضة وموقع استراتيجى يمكن أن يتحول إلى واجهة اقتصادية وسياحية تربط البحرالمتوسط بالعالم. هذه النظرة البراجماتية الباردة هى ما يجعل مشروع «ريفييرا غزة» استثمارا رأسماليا وليس رؤية سلام، وهى أيضا ما يفسر استمرار حضوره فى أجندة التفكير الأمريكى حتى إن غاب عن التصريحات الرسمية مؤقتا.
لكن الفارق اليوم أن واشنطن لم تعد تتحدث عن تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، بل عن «تمكينهم اقتصاديا»، أى تحويلهم إلى قوة عمل داخل مشروع رأسمالى مغلق، يُدار من الخارج ويخدم مصالح القوى الكبرى. بهذه الصيغة، تتحول غزة إلى نموذجٍ جديد للاستعمار الحديث: لا احتلال عسكرى، ولا إدارة مباشرة، بل شبكة من القروض والمساعدات والاستثمارات التى تتحكم بالموارد والسياسات من دون الحاجة إلى جندى واحد على الأرض.
وخلال الأشهر الأخيرة، كثفت واشنطن اتصالاتها مع دولٍ عربية، لإيجاد صيغة «إدارة ما بعد الحرب» فى غزة. فى الخطاب العلنى، تبدو الغاية إنسانية: إعادة الإعمار وتهيئة الظروف للحياة. لكن فى الكواليس، تتحدث المؤسسات الأمريكية عن تحويل غزة إلى «منطقة اقتصادية خاصة»، بميناء خاضع للرقابة الدولية، ومشاريع طاقة ومياه واتصالات تديرها شركات متعددة الجنسيات.
هذا النمط من التفكير ليس جديدا على السياسة الأمريكية. فهو امتداد لمنهج «الاستعمار الاقتصادى» الذى حلّ محل الاحتلال العسكرى فى كثير من مناطق العالم بعد الحرب الباردة. حين تتولى الشركات والمؤسسات الدولية إدارة المال والإعمار، يصبح القرار الوطنى مرهونا بممولين ومهندسين ومراقبين أجانب، لا بجنرالات أو إداريين من الخارج. وبذلك تضمن واشنطن السيطرة بأقل كلفة وأعلى فاعلية.
وفى تصور واشنطن، ليس المطلوب ترحيل الغزيين أو تهجيرهم كما كان يُروّج سابقا، بل الإبقاء عليهم داخل القطاع واستخدامهم كقوة عمل رخيصة ومنضبطة. مئات آلاف الأيدى العاملة يمكن أن تشكل أساسا لاقتصاد خدماتى وصناعات خفيفة مرتبطة بالموانئ والطاقة والإنشاءات والمنتجعات. ومن خلال برامج التدريب والتوظيف الممولة دوليا، سيتم خلق جيلٍ جديد من العمال والموظفين يدين بفرصته الاقتصادية للمشاريع المموّلة أمريكيا، لا للسلطة الفلسطينية ولا لأى فصيل سياسى.
هنا تتجلى الفكرة الأعمق: «السلام مقابل العمل»، لا «السلام مقابل الأرض». فالولايات المتحدة تراهن على أن تحسين مستوى المعيشة النسبى، وتوفير فرص العمل والدخل، سيحول الانتباه عن المطالب الوطنية والسياسية، ويجعل الفلسطينيين أكثر قابلية للاندماج فى مشروع اقتصادى بلا سيادة. إنها إعادة تعريف لمفهوم السيطرة: أن تُبقى الناس فى أرضهم، لكنك تملك وسائل رزقهم وتتحكم بمستقبلهم.
وتستند الرؤية الأمريكية إلى أدوات الرأسمالية المعولمة: قروض مشروطة من البنك الدولى وصندوق النقد، برامج «إصلاح اقتصادى» تُلزم غزة بفتح أسواقها أمام الاستثمارات الأجنبية، اتفاقيات تجارية تُفضِّل الشركات الكبرى، ونظام مصرفى مرتبط بالمؤسسات المالية الغربية. ومع الوقت، سيصبح الاقتصاد الغزى تابعا لبنية مالية خارجية تحدد الأسعار والتجارة وسوق العمل، تماما كما حدث فى دولٍ خضعت لبرامج «إعادة الإعمار» فى البلقان والعراق.
بهذه الآليات، تُمارس الإمبريالية الأمريكية وظيفتها الكلاسيكية بطريقة حديثة. فهى لا تحتاج إلى دبابات أو احتلالٍ مباشر. أدواتها هى البنك، والميناء، والعقد الاستثمارى، وشبكات الطاقة والاتصالات. وعبر هذه الأدوات تُدار مقدرات الشعوب وتُعاد هندسة مجتمعاتها. ما يحدث فى غزة اليوم ليس سوى تطبيق نموذجى لهذا النمط من السيطرة: تحويل الدمار إلى فرصة استثمار، وتحويل المأساة إلى سوق مفتوحة.
لكن السؤال الأعمق هو: هل يمكن فعلا تنفيذ هذا المشروع فى غزة؟ تاريخ القطاع ووعيه الجمعى يُظهران أن أى محاولة لفصل الإعمار عن السياسة، أو تحويل الناس إلى عمالٍ بلا قضية، ستواجه مقاومة من المجتمع ذاته. فالغزيون الذين صمدوا تحت الحصار والحروب ليسوا مجرد قوة عمل تبحث عن رواتب، بل مجتمعٌ يملك وعيا وطنيا عميقا وتجربة طويلة فى رفض الإملاءات.
ومع ذلك، تظل الخطورة فى أن بعض الأطراف العربية والفلسطينية قد ترى فى المشروع فرصةً اقتصادية أو «بابا للحياة» بعد سنوات من الدمار. ومع ضعف البدائل السياسية، قد يجد البعض فى التمويل الأمريكى والإقليمى مخرجا مؤقتا، دون إدراكٍ أن هذا المخرج هو باب التبعية الطويلة. فحين تُدار إعادة الإعمار عبر الشركات والهيئات الأجنبية، يتحول الإعمار ذاته إلى أداة سيطرة، وتتحول المساعدات إلى وسيلة إخضاع.
إن ما يجرى التحضير له ليس مجرد مشروع تنموى، بل هندسة سياسية واقتصادية لمرحلة ما بعد الحرب. واشنطن تريد غزة آمنة لإسرائيل، ومنضبطة اقتصاديا، ومفتوحة أمام رأس المال، لكنها لا تريدها حرة أو مستقلة. لذلك، تسعى إلى نظامٍ اقتصادى يُغنيها عن الاحتلال، ويمنحها ما هو أثمن من الأرض: السيطرة على القرار. بهذه الصيغة، تعود فكرة «الاستعمار دون جيوش» إلى الواجهة.
غزة قد لا تُحتل من جديد، لكنها ستُدار من الخارج عبر المال والعقود والوعود. وبدلا من الحاكم العسكرى، سيكون هناك الممول الدولى، وبدلا من الجنود، المهندسين والمستشارين والمراقبين. والولايات المتحدة لن تبنى «ريفييرا غزة» من أجل الفلسطينيين، بل من أجل تثبيت معادلة نفوذها فى الشرق الأوسط الجديد، حيث تُدار الشعوب لا بالحديد والنار، بل بالمال والديون والمشاريع.
نبهان خريشة
جريدة القدس الفلسطينية