انكفاء المثقفین: كلام فى الأزمة

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 2 ديسمبر 2018 - 9:20 م بتوقيت القاهرة

أى تطلع للمستقبل یخسر رهاناته إذا لم یستند إلى أفكار ورؤى تحذر من المخاطر المحدقة، وتعمل على تجاوزها بقوة التوافق الطوعى لا الخوف والإكراه.
الأفكار والرؤى مهمة المثقفین.
وهذه مسألة بیئة عامة تدعم الحریات الدستوریة فى الاعتقاد والفكر والرأى والبحث العلمى والإبداع الفنى والأدبى والصحافة والإعلام ولا تصادرها، تحتضن الكفاءات والمواهب الشابة ولا تطردها خارج الحلبة.
«أنیمیا الأفكار» تؤسس لفراغ موحش تنمو فیه جماعات العنف والإرهاب وتتغذى علیه الفتن الطائفیة، ویمتنع أى إصلاح ممكن ویفقد المجتمع أية بوصلة تحدد مواطن القوة والضعف وسبل التصحیح والتصویب.
بأیة نظرة موضوعیة فإنه لا یمكن إنكار حالة الانكفاء التى یبدو علیها الآن المثقفون المصریون، أو التقلیل بالتجاهل من مستوى خطورتها.
لا یوجد تعریف جامع مانع للمثقف.
التعریفات تختلف بقدر زوایا النظر وخبرة التجارب والانحیازات، لكنها تكاد تجمع على أنه رؤیة وموقف قبل أى شىء آخر.
هناك فارق حاسم بین المتعلم والمثقف.
الأول لدیه معرفة بمجال تخصصه.
والثانى تتسع نظرته إلى ما هو أبعد من شواغله المباشرة.
لیس كل متعلم بالضرورة مثقفا.
قد تنطبق صفة المثقف على مواطنین بسطاء یقرأون ویتابعون الشأن الحالى، یتفاعلون مع حركة الفكر بقدر ما یستطیعون، یتذوقون الفنون، ولدیهم إحساس بالجمال بقدر ما تسمح ظروفهم.
المثقف هو من یمتلك بالاطلاع والاجتهاد القدرة على استیعاب حقائق الموقف العام وبناء رؤى وتصورات ومواقف على قدر من التماسك.
بتوصیف المفكر الإیطالى «أنطونیو جرامشى»، فإنه یرتبط بحركة مجتمعه وقواه العاملة لبناء كتلة تاریخیة تزیح الطبقات المهیمنة هذا هو «المثقف العضوى».
وبتوصیف الفیلسوف الفرنسى «جولیان بندا» فإن أدواره تصوغها فكرة الضمیر قبل أى التزام آخر وهذا هو «المثقف النبى».
ما بین «المثقف العضوى» و«المثقف النبى» تتبدى صور عدیدة ومتناقضة.
«بندا» نفسه هو من صك عبارة «خیانة المثقفین».
«المثقف الخائن»، هو أحد تجلیات أزمات المثقفین.
كأى خیانة فإن أثقالها لا یصعب الإمساك بحقائقها.
إذا ما تفشت خیانات الأفكار فإن الثقة تتبدد ویدخل المجتمع فى متاهات بلا نهایة.
المشكلة الحقیقیة فى «المثقف المهزوم»، وهو حالم وممزق ومنكفئ.
ینطوى أدب «بهاء طاهر» على شخصیات روائیة تجسد قدرا كبیرا من الهزیمة الداخلیة.
«نشعر أننا شبحان من عصر مات.. نعرف أن عبدالناصر لن یبعث من جدید، وأن عمال العالم لن یتحدوا».
«لم نقل ذلك أبدا، بل كنا نقول نكسة باستمرار: كنت أقول لكى أقنع نفسى قبل أن أقنعه أن الشعب لن ینسى ما فعله من أجله عبدالناصر».
«أقول له.. إن ثورته ستصحو على أیدى الناس مرة أخرى ذات یوم».
«أقول أشیاء كثیرة.. یستمع إلى وهو یهز رأسه فى عناد».
هكذا صاغ الأزمة فى «الحب فى المنفى»، بصیاغة درامیة أخرى لصورة «المثقف المهزوم» ینتحر المأمور «محمود عزمى» فى نهایة روایة «واحة الغروب»، تحت وطأة شعوره بأنه خان كل شىء فى حیاته.
لم یخن الثورة العرابیة لكنه تخاذل فى التحقیقات التى أجریت معه بعد هزیمتها، تنكر لها وسب زعیمها «أحمد عرابى»، للحفاظ على وظیفته ضابطا فى البولیس.
فى شعوره بالخیانة نوع من النبل لا یستشعره آخرون یسبون معارك أوطانهم التى دفعت ثمنها دما.
فى عالم السینما جرت اقترابات مماثلة من شخصیة «المثقف المهزوم»، الذى یشعر بالعجز عن تلبیة ما یأمل فیه أهله وناسه الذین انتظروا عودته وخاب أملهم فیه كفیلم «یوسف شاهین»، «عودة الابن الضال».
صورة «المثقف الانتهازى» تصدرت أعمالا أدبیة وفنیة عدیدة، أهمها ما كتبه «نجیب محفوظ».
«أأنت اشتراكى مخلص؟».
«طبعا».
«لم من فضلك؟».
«للثورة أعمال لا یسع الأعمى إلا الإقرار بها».
«والبصیر؟».
«إنى أعنى ما أقول».
«إذن فأنت ثورى اشتراكى؟».
«بلا أدنى شك».
«مبارك، خبرنى الآن أین نقضى لیلتنا».
هكذا تقمص «سرحان البحیرى» الانتهازى والمتورط فى فساد مالى وأخلاقى دور المناضل الاشتراكى فى روایته «میرامار».
فى روایة «اللص والكلاب» تبدت صیغة أخرى من نفس القماشة السیاسیة والإنسانیة لخصتها شخصیة «رءوف علوان»، الذى أقنع «سعید مهران» بأفكاره التقدمیة قبل أن ینقلب هو على هذه الأفكار، ویدفع اللص التائب إلى قتل أبریاء دون قصد.
وكانت شخصیة «محجوب عبدالدایم» فى «القاهرة الجدیدة» ذروة السقوط الأخلاقى للمثقف الانتهازى، حیث كل شىء حتى الشرف الشخصى قابل للمقایضة وتلقى الأثمان.
فى كل عصر هناك من یلعبون الدور نفسه، كأن «محجوب عبدالدایم» شخصیة لا تموت.
العلاقة مع السلطة إحدى الإشكالیات الكبرى فى النظر إلى دور المثقف.
فى رأى «إدوارد سعید» أن الاقتراب من السلطة ینفى صفة المثقف، الذى هو بالتعریف ناقد لها.
رغم التعسف فى إطلاق الأحكام، فلكل حالة ظروفها، مثل العلاقة ما بین «شارل دیجول»، الرجل الذى قاد المقاومة الفرنسیة ضد الاحتلال النازى و«أندریه مالرو»، وزیر ثقافته صاحب روایة «الأمل» عن الحرب الأهلیة الإسبانیة التى ألهمت أجيالا.
أسوأ أنواع المثقفین من یطلق علیهم فى الحدیث الیومى المصرى: «الطبالون»، وهم ورثة «الطبلخانة» الذین كانوا یتصدرون مواكب أمراء الممالیك بالطبول والدفوف.
الناس تشم رائحة الكلام، توافق أو تختلف، لكن تحترمه إذا ما رأت فیه تعبیرا حقیقیا عن صاحبه وأفكاره.
بین التعریفات المختلفة والتوصیفات المتناقضة للمثقفین، فإن ما له قیمة حقیقیة یبقى ویؤثر ویلهم بقدر عمق الأفكار والتصورات وجدیة الالتزام بها والحوار بموضوعیة حولها.
یصعب أن یجمع المثقفون على موقف واحد فى قضیة واحدة، لكن عندما یحدث مثل هذا الإجماع یتغیر التاریخ.
حدث ذلك فى جمیع الثورات المصریة والمنعطفات السیاسیة بلا استثناء واحد.
كان التجلى الأخیر اعتصام المثقفین فى مبنى وزارة الثقافة قبیل (30) یونیو.
بدا المشهد جلیلا، اجتماعات وحوارات طوال الوقت، غناء وعروض بالیه فى الشارع كما لم یحدث من قبل.
تصدر ذلك المشهد روائیان كبیران «بهاء طاهر» و«صنع االله إبراهیم»، وتدفق علیه فنانون ومبدعون من جميع الأجیال والاتجاهات الوطنیة، طلبا للدولة المدنیة الدیمقراطیة الحدیثة.
بعده حدث انكفاء دون التفات یذكر إلى خطورته على مناعة البلد وقدرته على الإبداع وتجدید قوته الناعمة وبناء تصورات تساعد على تأسیس مشروع ثقافى له طاقة الالتحاق بعصره.
بالتعریف الثقافة قضیة حریة تفكیر وإبداع وبیئة عامة تشجع على النقد والحوار بندیة.. ولا یوجد مدخل آخر لدرء خطر انكفاء المثقفین على المستقبل المصرى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved