بداية المرحلة الأصعب

محمد الهوارى
محمد الهوارى

آخر تحديث: الجمعة 2 ديسمبر 2022 - 8:20 م بتوقيت القاهرة

فى المبنى الذى يقع فيه مكتبى فى إحدى ضواحى مدينة زيوريخ السويسرية لى جار ألمانى يعمل لشركة حواسيب ولكنه مهتم بأسواق المال ويهوى المضاربة فى وقت فراغه. فى كل مرة أقابله خلال الشهور الماضية يكرر لى أن الأسواق هبطت زيادة عن اللازم وأنه يراهن على تعافيها بقوة وبسرعة. أخالفه الرأى وأقدم له أسبابا واقعية تحول دون تحقيق توقعه المتفائل ثم أنصحه بالرهان على هبوط أكثر للأسواق. لكنه يعاندنى معاندة تذكرنى بتأثير «دانينج كرونينج» الذى يجعل أصحاب الخبرة الأضعف فى مجال معين يشعرون بثقة لا أساس لها. شىء من هذا العند أراه فى التعامل مع الأزمة الحالية على عدة مستويات فى العالم، أشهرها مؤخرا كانت الخطة الاقتصادية السخيفة التى أطلقها وزير المالية البريطانى «كوازى كوارتنج» الذى رحل عن الوزارة فى وقت قياسى بعد تعيينه. التباطؤ أو الركود الاقتصادى القادم بحتمية أُطلق عليه «الأكثر تقديما» فى التاريخ Most Telegraphed، وكأن البنوك المركزية بقيادة الفيدرالى الأمريكى قد أرسلت للعالم كله منذ شهور رسالة تليغراف مفادها أنها بالفعل تخلق تباطؤا، ومع ذلك ما زلنا نجد من يدفن رأسه فى الرمال ويأمل فى نتيجة مختلفة.
بداية، كما ذكرت فى مقالات سابقة، هدف البنوك المركزية فى العالم وخاصة البنك الفيدرالى الأمريكى هو خلق تباطؤ بهدف الحد من وطأة التضخم. بدأ الفيدرالى الأمريكى ومعه العالم كله دورة التشديد النقدى متوقعا ومستهدفا بذلك كسر شوكة التضخم سريعا، وتم ذلك بالفعل، فكل المؤشرات تدل أن التضخم فى طريقه بكل تأكيد للانكسار. ولكن بسبب الحرب الأوكرانية وديناميكية إمدادات النفط والعديد من السلع العالمية ــ خاصة الزراعية ــ فالتضخم كان وما زال أكثر عنادا من المتوقع. وبالتالى فاستمرار الفيدرالى الأمريكى فى رفع وتيرة التشديد جعل حدوث تباطؤ شديد أو ركود عالمى أمرا حتميا لا مفر منه، تتباين حدته من مكان لآخر. فبينما ستكون أمريكا من أقل البلاد تأثرا بسبب قوة اقتصادها فى المرحلة السابقة للتشديد، فستعانى أوروبا أكثر بسبب أزمة الطاقة المستمرة، كما ستعانى الصين بسبب أزمة عقارية وتأثير سياسة «الزيرو كوفيد». أما الدول النامية فبينما انتعشت فى المرحلة الأولى من الأزمة الدول المصدرة للسلع وخاصة البترول وعانت باقى الدول خاصة التى تعانى من مشاكل هيكلية، فالمرحلة القادمة ستشهد معاناة عامة للدول النامية.
حتى الآن ما نراه من تأثير على الاقتصاد العالمى يأتى فى الأساس بسبب ارتفاع أسعار الفائدة خاصة على الدولار الأمريكى وكذلك ارتفاع أسعار الطاقة وسعر الدولار. كل هذا يضغط على السيولة العالمية مما يصعب عملية إعادة التمويل. كما ذكرنا فالمؤشرات كلها تدل على أن التضخم فى طريقه للانحسار مما يعنى الوصول لقرب نهاية دورة التشديد النقدى ولكن سعر الفائدة سيبقى على نفس المستوى المرتفع لفترة ليست قصيرة مما سيستمر بالضغط على السيولة العالمية لفترة أطول. هذا معناه أن أنظار العالم ستتحول بالتدريج من التضخم إلى التباطؤ الاقتصادى وبالتالى فالمرحلة القادمة سترى تأثر الأسواق العالمية بهذا التباطؤ وإعادة تقييم كل الأصول المالية من سلع وعملات وشركات واقتصادات فى ضوء ذلك. فى الشهور الماضية شهدنا صندوق النقد الدولى يخفض توقعات نسب النمو العالمية، وكذلك بدأ المحللون فى خفض توقعاتهم لأرباح معظم الشركات عالميا. وأتوقع أن دورة تخفيض التوقعات لم تنتهِ بعد، بل إن الجزء الأسوأ منها لم يبدأ حتى الآن فتوقعات عام ٢٠٢٣ ستهبط بشدة خلال الشهور القادمة.
بمعنى آخر أن العالم ينتقل حاليا من أزمة سيولة وتضخم إلى أزمة سيولة وانخفاض نمو. سيشهد العالم على مدى الجزء الأكبر من عام ٢٠٢٣ انخفاضات شديدة فى الأسعار وارتفاع فى المخزونات يتزامن معه عروض تخفيضات كبيرة لتحفيز البيع. سيؤثر ذلك على ربحية الشركات وموارد الدول وبالتالى على أسعار الأصول المالية. فما الذى يجب فعله للمرور من هذه الأزمة؟ على جميع المستويات، الفرد والشركة والدولة، يجب أولا النظر إلى حالتنا الاقتصادية بصورة كاملة لتحديد مواطن الضعف الهيكلية واتخاذ خطوات جادة وسريعة لإصلاح هذا الضعف أو الحد من تأثيره. كذلك يجب وضع سيناريوهات وخطط بديلة فى حالة وجود تغييرات كبيرة تؤثر على مواردنا. فى هذه الظروف نضوب أو اختفاء بعض الموارد وارد جدا ويجب التحوط لحدوثها. الجانب المشرق من هذه المشكلة هو هبوط الأسعار عالميا وبالتالى فينصح بتأجيل قرارات الشراء حتى نرى هبوطا ملموسا للأسعار كما أتوقع وتتوقع معى بعض البنوك الاستثمارية الكبرى. أخيرا يتوجب أن تكون خطط التمويل طويلة الأجل، فالخطط قصيرة الأجل تعرضنا لاحتياج تمويل فى وقت قد يضطرنا لقبول أصعب الشروط مما يزيد الأعباء على ميزانيتنا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved