دعاء السنة الجديدة وسنن الكون

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الأربعاء 3 يناير 2018 - 10:10 م بتوقيت القاهرة

سأخالف الآخرين وأتوجه إلى الله العلى القدير، بمناسبة حلول العام الميلادى الجديد، بدعاء غير انتهازى وغير مخالف لسنن الكون التى وضعها. فيارب العالمين لن أطلب منك أن تشمل أمة العرب ووطنها الكبير بالسلام والمنعة والخروج من الجحيم الذى تعيشه شعوبها خارج السنن التى أوضحتها للبشر فى رسالاتك الإلهية وعلى ألسنة رسلك. فأنت الذى قلتها بصوت مجلجل بأنك لن تغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأنت الذى قرنت الإيمان بالعمل الصالح وقرنت الحق بحمل مسئولية الأمانة. ولذلك فدعاؤنا، غير البليد وغير الانتهازى، هو أن تعيننا، نحن العرب، على أن نغير ما بأنفسنا وما حولنا قبل أن نطلب رحمتك وتحقق الاستعانة المؤمنة بك.

بدون ذلك سيكون السلام الذى نطلبه كاذبا وستكون المنعة التى نرجوها مؤقتة.

تغيير ما بأنفسنا وما حولنا، وحمل الأمانة يتطلب أن تقتنع الشعوب العربية بجملة منطلقات تناضل من أجلها ليل نهار، ولا تتنازل عنها تحت أية ظروف وبافتعال أية ذرائع.

***

أولا: هناك موضوع استرجاع الدين من يد الذين اختطفوه من ساسة مستبدين وعلماء دين فاسدين ومؤسسات دين متخلفة. لقد عانت شعوب الأمة، عبر تاريخها الطويل، من الاستغلال الانتهازى للدين فى سبيل أطماع جاه السلطة وتركيزها فى يد أقليات، وفى سبيل تبرير تجمع الثروات فى يد أقليات جشعة أنانية، وفى سبيل تبرير ادعاءات بأفضليات قبلية أو عائلية نسبية أو مذهبية أو عسكرية أو تاريخية. ولقد تم كل ذلك من خلال إضفاء القدسية على مدارس ومذاهب وضعها أحيانا بشر مجتهدون وأحيانا بشر مغرضون.

اليوم نحتاج، نحن العرب، أن نخرج أنفسنا من فوضى اختلاط الدين بالسياسة والاقتصاد والصراعات الاجتماعية حتى نعيد للدين وهجه ونقاءه ليصبح مصدرا لنمو الإنسان الروحى ولقيم وأخلاقيات وسمو حياة المجتمعات وعلاقات مكوُناتها.
ثانيا: لقد عانت مجتمعاتنا وشعوبنا من غياب فكر سياسى واقتصادى منطلق من مقتضيات العدالة والحرية والمواطنة الجامعة والحقوق الإنسانية المتزنة السامية واحترام الكرامة الإنسانية. هنا أيضا جرى استعمال قراءات خاطئة للدين لتبرير ذلك الغياب، بل ولتجذيره فى الوجدان العربى. فكانت النتيجة فاجعة الغياب شبه الكامل للنظام الديموقراطى السياسى والاقتصادى العادل المبنى على الشرعية التعاقدية فى السياسة والعدالة الاجتماعية فى الاقتصاد والمواطنة المتساوية فى الحقوق والواجبات.

على ضوء فواجع تاريخ الأمة وحاضرها، والتلاعب بمقدراتها من قبل أقليات لابسة لأقنعة بمسميات كثيرة، أصبح موضوع الديموقراطية والأسس التى تقوم عليها هو أحد المداخل الكبرى المفصلية التى يجب ألا نتنازل عنها قط، تحت أية ظروف وبسبب أية مبررات. بل إن حل الفوضى فى حقل الدين لن نصل إليه إلا بتوافر الحدود الدنيا من متطلبات الديموقراطية الحقة وغير المزيفة والمتلاعب بها.

***

ثالثا: هناك موضوع تلاعب الخارج، المتمثل فى الفكر والممارسات والاحتلال الصهيونى لفلسطين، وفى القوى الاستعمارية الغربية وفى التدخلات الإقليمية، المتعددة الأشكال. إنه موضوع بالغ التعقيد، لكنه أصبح أكبر المصادر المهددة لأية نهضة لأمة العرب. لقد أصبح تكالب تلك القوى كابوسا يعيشه العرب يوميا، وأصبح وطن العرب أكثر الأوطان استباحة وضعفا وتمزقا. وبالرغم من كل ذلك ابتلى العرب بأصوات تتعايش مع هذه الأخطار، وتتلاعب بأولويات الأمة، وتزيف قائمة أعدائها باعتداء مفجع على التاريخ والجغرافيا ومنطق السياسة والهوية العروبية.
رابعا: هناك موضوع الطريق المفصلى المؤدى إلى الاستقلال السياسى والاقتصادى الصحيح، وإلى مقارعة الأعداء، وإلى التنمية الإنسانية الشاملة. إنه موضوع وحدة الأمة والوطن.

لقد أثبتت السنون الكثيرة، والإحن والمحن المفجعة، وتعثر محاولات النهوض من التخلف الحضارى، بأن الدولة الوطنية العربية لا تستطيع أن تنهض بدون محيطها العربى، وبالتالى بدون نوع من توحد العرب فى كيان واحد. ليست التفاصيل هنا بالمهمة، وإنما التمسك الشديد بالمصير المشترك ووحدة السيرورة فى التاريخ وما يعنيه كل ذلك فى تطبيقات السياسة والاقتصاد والثقافة.

بدون نوع من الوحدة العربية سيسير العرب عكس منطق العصر، وعكس متطلبات بناء القوة الحضارية. وبالتالى أصبح رجوع وهج المشاعر والشعارات والنضالات القومية العروبية الواحدة، التى تكالب الأعداء فى الخارج والداخل على تشويهها أو إنكارها أو محاربتها، أصبح ضرورة وجودية للجميع. لقد أثبتت تجربة دول الخليج العربى أن المال وحده لا يكفى، وتجربة مصر أن الكتلة السكانية وحدها لا تكفى، وتجربة العراق أن القوة العسكرية وحدها لا تكفى. منطق الوحدة هو وحده القادر على سد الثغرات وتجييش القوى وتهيئة كل المتطلبات المادية والمعنوية الفاعلة.

دعائى، يا الله، بأن تهدى العرب لوعى كل ذلك، والإيمان بأهمية كل ذلك، والنضال من أجل كل ذلك، وأن يتوجهوا إليك بطلب مباركتك وإحسانك بعد أن يكونوا قد غيروا ما بأنفسهم وما حولهم.

قبل أن يتم كل ذلك أعتقد، أنا المؤمن بك وبرحمتك وبقدرتك، بأن الأدعية ستكون استهزاء بسننك الكونية الصارمة وبالأمانة التى طلبت منا حملها.

اللهم اجعله عام فكر وعمل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved