التطبيع مع إسرائيل: بين أنصاره وخصومه

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الأحد 3 يناير 2021 - 9:00 م بتوقيت القاهرة

انبرت أقلام عديدة للإشادة بخطوات تطبيع العلاقات بين إسرائيل وأربع من الدول العربية والتأكيد على ضرورتها فى عالم جديد يختلف عما كان عليه الحال وقت الحرب العربية الأولى ضد الكيان اليهودى على أرض فلسطين فى سنة 1948، وساق أصحابها حججا كثيرة لمساندة هذه الخطوات، بل وادعى أحدهم أنها تعكس فكرا جديدا، ولام على من لا يقبلون بذلك أنهم معدومو الحجة، ولا يملكون سوى الرفض.
والواقع أن من أحزنهم هذا البعد عن الموقف العربى الذى قام على مبدأ الأرض مقابل السلام لهم أيضا حججهم التى تقوم على اعتبارات المصالح القطرية والقومية، فضلا عن اعتبارات أخلاقية وقانونية، وكل ما فى الأمر أن أنصار التطبيع لا يرون سوى بعض المصالح القطرية فى الأجل القصير، التى تجد جذورها فى حسابات خاطئة للأوضاع الإقليمية والدولية معا. ويطرح هذا المقال بعض حجج هذا الفريق الثانى، مخاطبا الرأى العام فى قراء هذه الصحيفة.
المشروع الصهيونى من وجهة نظر أخلاقية
الوجود الصهيونى على أرض فلسطين هو أحدث صورة للاستعمار الاستيطانى الذى عرفه العالم منذ خمسة قرون عندما بدأ وصول الأوروبيين إلى الأمريكتين، وتكرر فى جنوب قارتنا. نفس العقلية التى حركت المهاجرين البيض إلى الأمريكتين وإفريقيا هى التى حركت الوكالة اليهودية فى أرض فلسطين، رسل الحضارة الأوروبية المتقدمة ينتقلون إلى مجتمعات متخلفة ليقيموا فيها نموذجا للتقدم الغربى الذى يبرر لهم السيطرة على الأرض والاستهانة بأى حقوق لمن يتصادف وجودهم فيها. وأضافت الحركة الصهيونية أن الوجود فى فلسطين هو توفير مكان لشعب على أرض لا يوجد فيها شعب، وفقا للعبارة الشهيرة لجولدا مائير وهى رئيسة وزراء سابقة لإسرائيل.
ومن ثم فكل المشروع الصهيونى يقوم على أسس أخلاقية خاطئة، لسبب بسيط هو أن هناك شعبا على أرض فلسطين طرد من نصفها تقريبا فى الفترة 1948ــ1967، وتسعى إسرائيل الآن لإحكام سيطرتها على 28% أخرى من أرضه، بحيث لا يبقى لسكان الوطن الأصليين سوى 22% فى الضفة الغربية وغزة، بل تطلع بعض قادة إسرائيل إلى طردهم منها لكى لا يكون على أرض فلسطين التاريخية سوى يهود استنادا لما يقول به المتدينون منهم ويمينهم المتطرف بأنها أرض الميعاد وفقا لتفسيراتهم للعهد القديم.
القبول بالتطبيع هو تسليم بهذه الجريمة الأخلاقية ليس فى حق الشعب الفلسطينى وحده، ولكن فى حق الإنسانية جميعا لأن المبدأ الأخلاقى عمومى وقاطع، وليس هناك مبدأ أخلاقى يفوق فى عموميته مبدأ عدم جواز الاستيلاء على أرض شعب وطرده منها.
مثل هذه الاعتبارات الأخلاقية لها مكانتها فى العلاقات بين الدول، فجريمة أخلاقية أخرى دعت مجتمع الدول إلى أن يقرر فرض عقوبات أممية على دولة التفرقة العنصرية فى جنوب إفريقيا فى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 1761 فى نوفمبر 1962، وأنشأ القرار لجنة لمتابعة تطبيق العقوبات الاقتصادية التى دعا إليها. وقد التزمت كل الدول العربية التى كانت أعضاء فى الأمم المتحدة بهذا القرار. وهكذا فقد تغاضت الحكومات العربية عما كان يمكن أن يكون لها من مصالح مع حكومة جنوب إفريقيا العنصرية وقاطعتها اقتصاديا. ألم يكن السند الأساسى لهذا القرار هو أن التفرقة العنصرية هى جريمة أخلاقية تنكر حق المساواة بين البشر الذى هو أحد حقوق الإنسان الثابتة والذى ألهم العبارة الثانية فى ديباجة ميثاق الأمم المتحدة. والتى تؤكد على حقوق الإنسان الأساسية فى الكرامة والقيمة، والمساواة فى الحقوق بين الرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها.
ألا يقوم المشروع الصهيونى، ليس فقط فى فلسفته، ولكن فى ممارسات الكيان السياسى الذى كان ترجمة أمينة له، على التفرقة العنصرية كذلك، فإسرائيل هى دولة اليهود، مما يعنى أن من يتواجدون على أرضها من غير اليهود لا يتمتعون بالمساواة مع اليهود، فهم إن اعتبروا مواطنين، فهم مواطنون من الدرجة الثانية، وطرد الفلسطينين من ديارهم سواء فى 1948 أو بعد سنة 1967 لإقامة المستوطنات فى الضفة الغربية هو حق مشروع لهم، وتجاهل العشرات من القرى الفلسطينية داخل حدود إسرائيل وعدم ذكرها على الخرائط وعدم تقديم أى خدمات لها تمهيدا لتصفيتها هو أيضا تعبير عن هذا المنطق العنصرى.
فى كل هذه الحالات تقترن التفرقة على أساس الدين بالاستيلاء على الأراضى، وهو ما يتفوق فيه المشروع الصهيونى على مشروع التفرقة العنصرية الصرف فى جنوب إفريقيا الذى كان صديقا له، والذى أبقى المواطنين ذوى الأصول الإفريقية والآسيوية خارج أماكن سكنى المواطنين من أصول أوروبية. المشروع الصهيونى ينكر على الفلسطينيين أى حقوق لهم فى كل فلسطين. بل ويمد أبصاره خارج حدود فلسطين، فقد أعلن بالفعل ضم هضبة الجولان السورية، ولو لم تكن المقاومة اللبنانية قد أجبرت قوات إسرائيل على الانسحاب من جنوب لبنان لكان الأمر قد انتهى بإسرائيل إلى ضم جنوب لبنان إلى حدودها، وقد كشفت المعارضة فى الكنيست للاتفاقية المصرية الإسرائيلية فى 1979 عن رغبة بعض قادة إسرائيل فى البقاء فى سيناء.
القول بأن المشروع الصهيونى بترجمته على أرض فلسطين يمثل جريمة أخلاقية فى حق الإنسانية لا يعنى على الإطلاق السكوت عن الاضطهاد الذى تعرض له اليهود طوال قرون داخل القارة الأوروبية، ولا قبول المحرقة التى كان ستة ملايين يهودى ضحية لها فى مراكز الاعتقال النازية، ولا التوقف عن لوم الحكومات العربية التى دفعت مئات الآلاف من اليهود العرب إلى الهجرة إلى إسرائيل، ولكن التعويض عن جريمة أخلاقية ارتكبت فى حق اليهود فى أوروبا لم يكن يقتضى ارتكاب جريمة أخرى فى حق الفلسطينيين والعرب بمشاركة وتواطؤ قوى أوروبية وأمريكية.
الاعتراض المبدئى الثانى على المشروع الصهيونى داخل الوطن العربى هو أن نموذج الدولة التى أقامها هى النقيض تماما لحلم العرب بدولة وطنية على أساس المساواة بين مواطنيها أيا كانت ثقافاتهم. دولة إسرائيل تقوم على أساس الدين، وهو ما عاد إلى تأكيده قادة إسرائيل فى السنوات الأخيرة بإصرارهم على أن دولة إسرائيل هى دولة يهودية، وهو ما بلوره قانون القومية اليهودية الذى أقره الكنيست فى 19 يوليو 2018. إسرائيل من هذه الناحية تلتقى مع غلاة الحركات الدينية فى الوطن العربى الذين يدعون أيضا إلى قيام الدول العربية على أساس الدين، بل إن حلم بعض غلاة الصهاينة هو أن تنقسم الدول العربية على أساس طائفى، وهو ما عبرت عنه كتابات ضمن أدبيات الحركة الصهيونية. الدولة الوطنية فى العالم العربى التى تضم مواطنين من عقائد دينية وثقاقات مختلفة وتعاملهم على قدم المساواة هى خطر رمزى على إسرائيل لأنها تؤكد أن العيش فى وطن واحد رغم اختلاف العقائد والثقافات هو النموذج الناجح المناقض لما تقوم عليه إسرائيل.
الاعتراض المبدئى الثالث هو أن التطبيع ممكن مع دولة «طبيعية» تقبل أن تلتزم بمبادئ القانون الدولى، وفى مقدمتها عدم التدخل فى شئون الدول الأخرى. إسرائيل لا تقبل أن تكون دولة طبيعية بهذا المعنى. فهى لا تلتزم بقرارات المنظمات الدولية، وتتجسس على كل الدول بما فى ذلك الولايات المتحدة الأمريكية راعيها الأكبر. أمثلة تدخلها غير المشروع وغير القانونى فى شئون الدول العربية لا تعد ولا تحصى لا فى الماضى القريب ولا فى اللحظة الراهنة. لن نعود لتجنيدها يهودا مصريين فى سنة 1954 لمحاولة نسف منشآت بريطانية وأمريكية لإفساد أى احتمال لعلاقات طيبة بين حكومة يوليو فى مصر وكل من بريطانيا والولايات المتحدة، ولكن مساندتها الفاعلة للحركات الانفصالية فى الدول العربية وخصوصا فى العراق ولبنان وجنوب السودان مثل آخر على ذلك، وهو ما أصبح مدعاة للفخر لعملاء المخابرات الإسرائيلية يجاهرون به على قناة التلفزيون الإسرائيلية الناطقة باللغة العربية، أضيفوا إلى ذلك تدميرها للمفاعل النووى العراقى، واحتلالها لجنوب لبنان أكثر من مرة، وغاراتها المستمرة على سوريا فى الوقت الحاضر واعتراضها عمليا على التقدم العلمى والعسكرى حتى فى الدول التى أبرمت معها معاهدات سلام، مثل اغتيال العالم النووى المصرى يحيى المشد فى سنة 1980، ومحاولتها وقف صفقة طائرات عسكرية أمريكية لدولة الإمارات.
هل التطبيع مع إسرائيل هو فى صالح دول عربية
دعونا أولا ننحى ربما للمرة الأخيرة ذلك الادعاء السخيف بأن تطبيع العلاقات بين تلك الحكومات وإسرائيل يساهم فى تحقيق السلام فى الشرق الأوسط، فأى من الدول الأربع التى أعلنت قيام علاقات مع إسرائيل لم تكن مجاورة لها ولا فى حالة حرب معها، كما أنه ردا على زعم بعض قادة هذه الحكومات أن الخطوات الأولى على هذا الطريق دعت إسرائيل لوقف إعلان ضمها للضفة الغربية، جاء التوضيح من رئيس الحكومة الإسرائيلية بعدم صحة ذلك، وأن ما جرى هو سلام مقابل السلام، أى أنه لم يقترن بأى «تنازلات» إسرائيلية.
دوافع التطبيع تختلف من دولة عربية إلى دولة أخرى، فى حالة كل من دولة الإمارات وهى التى قادت هذه الجهود، والبحرين، وقف النفوذ الإيرانى هو السبب الأساسى. لم تفلح العلاقات المستترة ولا العلنية مع إسرائيل فى الحد من النفوذ الإيرانى لا فى الخليج ولا فى المشرق العربى. ورغم كل نشاط المخابرات الإسرائيلية وكل العقوبات التى فرضتها إدارة ترامب، تزمع إيران تصعيد تخصيب اليورانيوم، كما تزايدت هجمات حزب أنصار الله المدعوم من إيران فى اليمن على المملكة السعودية، وحافظت إيران ومعها حزب الله على التواجد فى سوريا، كما يساند حزب الله الرئيس اللبنانى فى وقف تشكيل حكومة فى لبنان لا يسيطران عليها. ولكن الأمر الأخطر أن أى قيادة إيرانية فى المستقبل لن تغفر لهما ولا للسعودية التى تساندهما هذا الموقف المعادى مما يرجح أن تواصل إيران سياساتها المعادية لكل دول الخليج المناوئة لها، ولن تجرؤ إسرائيل فى ظل أى إدارة أمريكية مقبلة على أن تشن حربا على إيران لوقف برنامجها النووى، وهو ما لم تفعله فى ظل إدارة ترامب، وهى أكثر إدارة أمريكية منحازة لإسرائيل.
طبعا رضخت الحكومة السودانية لضغوط الحكومة الأمريكية وقبلت بتطبيع العلاقات مع إسرائيل لكى تسقط عنها الحكومة الأمريكية وضعها على قائمة الدول المساندة للإرهاب، وهو ما يسمح للسودان باستئناف علاقات اقتصادية طبيعية مع المؤسسات المالية الدولية ومع جميع الدول الكبرى، وحصلت حكومة المغرب على اعتراف الحكومة الأمريكية بمغربية الصحراء الغربية، وهو ما قد تتراجع عنه إدارة بايدن، كما أن مثل هذا الاعتراف قد يقوى عزم الحكومة الجزائرية على الاستمرار فى إثارة التوتر فى إقليم الصحراء رفضا للسيادة المغربية عليها.
وفضلا على الآثار السلبية لخطوات التطبيع هذه على هذه الدول فى المستقبلين المتوسط والبعيد، فهناك الأخطار التى تلحق بالدول العربية الأخرى، مثل ما يمكن أن يترتب على النقاش الدائر فى إسرائيل حول مشروعات مشتركة مع الإمارات لمد خط أنابيب ينقل نفط الخليج إلى الموانئ الإسرائيلية على البحر الأبيض مما يؤثر على تنافسية خط سوميد الذى ينقل هذا النفط عبر الأراضى المصرية، ومنها أفكار إماراتية عن قوة بحرية لحماية البحر الأحمر تشارك فيها إسرائيل، أو تعاون أمنى بين السودان وإسرائيل يوجد لإسرائيل موقعا جنوب مصر.
وهكذا فالمحصلة النهائية لخطوات التطبيع هذه هى استمرار التوتر بين إسرائيل والفلسطينيين والسوريين واللبنانيين لإصرار إسرائيل على الاحتفاظ بأراض فلسطينية وسورية تحت احتلالها وتواصل تهديدها بآلتها الحربية لهم، فضلا عن إهدار هذه الدول من مواثيق وقرارات صدّق عليها ملوكهم ورؤساؤهم.
هل نعلن الحرب على إسرائيل
الهدف من طرح هذه الأفكار هو أن يتبصر الرأى العام بزيف الادعاءات بأى نتائج إيجابية يمكن أن تترتب على خطوات التطبيع هذه، وأن تعود المصداقية للمبادرة العربية بأن السلام مع إسرائيل رهن بقبولها إنهاء احتلالها لأراض عربية وقبولها أن تتصرف كدولة مثل كل الدول يتوقع منها أن تحترم قواعد القانون الدولى وأن تتوقف عن التدخل فى شئون الدول العربية التى تريد أن تنعم بسلام معها. ولكن لا تحمل هذه الأفكار الدعوة لإلغاء المعاهدات التى وقعتها إسرائيل مع مصر أو الأردن والسلطة الفلسطينية. لقد قبل العرب بالظلم التاريخى الذى وقع عليهم بوجود دولة إسرائيل، ويبقى على هذه الدولة أن تقبل بالشروط التى وضعها مجلس الأمن ذاته لكى تعيش كل هذه الدول والشعوب داخل حدود آمنة ومعترف بها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved