مصــــــــــــــر تتطهـــــــــــــر

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 3 فبراير 2011 - 6:40 م بتوقيت القاهرة

 عدن مبتهجات من ميدان التحرير بعد أن اشتركن مع مئات الآلاف من الرجال فى المسيرة المليونية. أقسمن بأنه لم تحدث حادثة تحرش واحدة خلال الساعات الخمس التى قضيناها فى المسيرة.

 
اتصلت بى سيدة تسكن فى حى شبرا تبلغنى أنها بكت عندما خرجت إلى شرفة شقتها فى الصباح الباكر لتطمئن على أحوال الشارع، الذى تسكن فيه وإذا بها ترى مشهدا لم تره من قبل فى هذا الشارع أو فى أى شارع آخر فى مدينة القاهرة خلال السنوات الأخيرة، رأت شبان الشارع يكنسونه، وهو الشارع الذى لم تمتد إليه يد الحكومة لكنسه منذ أسبوع وينظفون السيارات ويزيحون المتاريس التى أقاموها خلال الليل لحراسة البيوت والمحال.


بين مكتبى وبيتى مسافة أقطعها مشيا فى خمس عشرة دقيقة. أخذت منى ساعة ليلة أمس لأننى تعمدت أن أتوقف كل حين لأتحدث مع أفراد اللجان، التى شكلها أبناء الحى للحراسة. كانت فرصة لأسمع ما يقوله الشباب خارج ميدان التحرير، ولأعرف إن كانت الشعارات التى سمعتهم يجاهرون بها فى المظاهرات تختلف عما يدور حقيقة فى أذهانهم. سمعت وعرفت أن هؤلاء الشبان وكثيرين غيرهم لن يسكتوا بعد الآن على الظلم ولن يتهاونوا فى حماية الرشوة والفساد ولن يهدأوا فى وجه القمع البوليسى ولن يتهاونوا فى حقوقهم. سمعت منهم اعتراضات بأنهم قصروا حين استسلموا لحكومات وقيادات فاسدة، وأنهم أدركوا وإن متأخرين أن سكوتهم شجع الطبقة السياسية الحاكمة على الاستهانة بمطالب الشعب وأوصل مصر إلى ما وصلت إليه.


>>>
الشبان المتظاهرون فى ميدان التحرير، وفى محطة الرمل وحى الأربعين بالسويس وشوارع وميادين المنصورة وطنطا والمحلة الكبرى وغيرها من مدن مصر، ليسوا من نسيج مختلف أو من كوكب آخر. قال رفيقى فى المظاهرة، وهو يفرك عينيه غير مصدق، أنه لم يكن يعرف أن فى بلدنا أمثال هؤلاء الشبان صبيانا وبنات. أين ذهبت اللغة الممسوخة والعبارات الهابطة والتعليقات التافهة، التى أغرقتنا بها قنوات الإذاعة والتليفزيون على امتداد سنوات وسنوات، بحجة أن الشباب يريد هذا الإسفاف وهذه السفالات. فجأة وقع اكتشاف أن هؤلاء الشباب خرجوا إلى الشوارع يريدون شيئا آخر، يريدون إسقاط النظام وققف التردى والانهيار السياسى والثقافى والأخلاقى. سمعنا فى المظاهرات عشرات منهم يناقشون رجالا فى عمر آبائهم وأجدادهم بلباقة وفصاحة وإحاطة مذهلة بتطورات السياسة داخل مصر وخارجها. فهمت كيف صارت تونس، بين يوم وليلة، حديث شباب مصر يعرفون عنها ما كنت أظن أنهم لا يعرفونه، سمعتهم يتحدثون عن الاتحاد العام التونسى للشغل وحركة النهضة وعن سيرة حياة زين العابدين بن على وعن حجم التزييف، الذى نسجته المؤسسات الدولية حول نمو الاقتصاد التونسى والسمعة الخارجية اصطنعتها الدول الأجنبية وبخاصة فرنسا والولايات المتحدة عامدة متعمدة للتعمية على استبداد نظام بن على وفساده.


>>>

مرت بنا فترة طويلة جدا و حزينة جدا غلب علينا فيها شعور التشاؤم بمستقبل مصر. كان صعبا أو مستحيلا، أن يحلم الشبان الذين يسمعون كل يوم من أجهزة الشرطة ووسائط الإعلام الحكومية روايات وتحقيقات تصورهم تافهين فى أحسن الأحوال ومجرمين أو منحرفين فى معظم الأحوال أن تخرج من بينهم عناصر جيدة تصلح لبناء مجتمع جديد.


كان الظن أن منظومة القيم المصرية فسدت، وأنه لا أمل فى مصر قبل أن تتطهر هذه المنظومة من كل الأمراض، التى تنهش فيها وفى الجسد المصرى. هناك من يتهم أجهزة نظام حكم مبارك بأنها تعمدت تضخيم الحالة المرضية لمنظومة القيم ليزداد المجتمع تدهورا وتزداد الحاجة لذراع الأمن القوية. أنا شخصيا لا أستبعد أن يكون هذا هو ما فعله النظام الأمنى الذى أقامه النظام الحاكم فى مصر تحت ذريعة محاربة الإرهاب وحفظ السلام مع إسرائيل وتنفيذ أهداف التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية.. وهناك من يتهم عناصر الفساد فى النخبة السياسية الحاكمة بأنها كانت وراء نشر القيم الفاسدة حين تساهلت مع عمليات الرشوة الصغيرة فى البيروقراطية المصرية لتغطى فساد نخبة الحكم فى الحزب والدولة، وحين كانت أجهزة الإعلام تنشط للكشف عن فضيحة فساد وراءها مسئولون كبار ثم تتوقف فجأة فلا تتابعها أو تتعمق فى كشف خفاياها بل على العكس تفرض التعتيم على مسار التحقيقات حولها.


>>>

لقد لعب الإعلام دورا مشينا حين انتقى من بين رجال الأعمال شخصيات غير نظيفة روج لها كنماذج ناجحة ودعا شباب مصر لتقليدهم والسير على خطاهم. ردد المقولة الشهيرة بأن الانطلاق نحو الرخاء الاقتصادى يحتاج إلى «تشحيم» الآلة البيروقراطية، بمعنى أنه لن يكون ممكنا تحقيق أى نمو اقتصادى بدون دفعة قوية من الفساد والسكوت عن النهب الواسع باعتباره السبيل الأمثل والأسرع لتراكم رأس المال الضرورى لهذه الانطلاقة. قيل أيضا إن مصر فى حاجة إلى تدفقات رأسمالية لا تخضع لأى رقابة أو محاسبة، بما يعنى أن يأتى المستثمر ليجد فى انتظاره من يسهل له تحقيق أرباح سريعة بأقل استثمارات وعمالة ممكنة مقابل شراكة فى بعض الربح وتقاسم المنهوبات


>>>

خرج الشباب لأنه يريد إسقاط منظومة قيم فاسدة ولأنه يريد إسقاط النظام الذى صنع هذه المنظومة. تحدثت مع شبان مقتنعين بأن إصلاح منظومة القيم شرط ضرورى لإصلاح حال مصر والانتقال إلى نظام ديمقراطى حقيقى. يعرف الكثير منهم أنهم على الهواء أمام ملايين المشاهدين فى مصر والعالم وأن تصرفاتهم وسلوكهم محسوب لهم وعليهم وأنهم حملة مشاعل ثورة وأن نجاحهم الذى صار حديث العالم بأسره يعود الفضل فيه إلى أنهم مارسوا خلال الأيام القليلة الماضية سلوكيات شريفة والتزموا مبادئ راقية فى الوقت، الذى كانوا يهتفون فيه بسقوط النظام الذى أفسد الحياة السياسيبة وسقوط الرئيس الذى يحتمى به قادة الفساد والمبشرين به.


>>>

لن تستلم عناصر الفساد وخصوم الحرية قبل أن تسدد ضربات متلاحقة للشباب، الذى أثبت زيف اتهامه بانتهاء صلاحيته وصلاحية مصر الدولة. لن تهدأ قوى الظلام والحقد واشعال النيران. حاولت حرق القاهرة مرة أخرى.


وستحاول خلال الساعات أو الأيام المقبلة إعادة مصر إلى وداعة أو استسلام الشعب المقهور والخائف والضائع.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved