ثورة 2011.. ومصير الاقتصاد المصرى

جلال أمين
جلال أمين

آخر تحديث: الجمعة 3 فبراير 2012 - 9:25 ص بتوقيت القاهرة

على الرغم من أننى، سواء فى أثناء دراستى لموضوع التنمية الاقتصادية، أو فى أثناء تدريسى له، كنت أنفق معظم الوقت فى دراسة أو تدريس أفكار اقتصادية بحتة، فقد وصلت إلى الاقتناع برأى، مازلت أعتقد أنه صحيح، وهو أن العقبة الأساسية أمام تحقيق التنمية، سياسية وليست اقتصادية.

 

لهذا كثيرا ما كنت أختم محاضراتى فى التنمية بالعبارة الآتية: «العقبة الأساسية أمام التنمية هى: أن الممسكين بالسلطة لا يجدون لهم مصلحة فى حدوث التنمية، وأصحاب المصلحة فى حدوثها ليس بيدهم السلطة».

 

إن كثيرا جدا من الخلافات حول تشخيص مشكلة من مشاكل التنمية، أو تحديد أسبابها، أو طريقة علاجها، وإن كان مظهرها خلاف حول أمور فنية (أو اقتصادية)، فهى فى الحقيقة خلافات سياسية، أى نتيجة صراع بين قوى سياسية تعكس مصالح متضاربة. هذه الحقيقة تنطق فى رأيى على مصر، كما تنطبق على غيرها من الدول الفقيرة (وكثيرا ما تنطبق على الدول الغنية أيضا). وتنطبق على مصر قبل ثورة يناير 2011، كما تنطبق عليها بعد هذه الثورة.

 

خذ مثلا الخلاف حول أداء الاقتصاد المصرى فى الأربعين عاما الماضية، أى منذ أوائل السبعينيات أو أواخر الستينيات. الجميع تقريبا متفقون على أن هذا الأداء كان سيئا. قد يؤكد البعض على بعض جوانب الفشل دون غيرها، أو على بعض الانجازات دون غيرها. ولكن الخلاف يبدأ متى بدأت محاولة تفسير هذا الفشل. فالكارهون لسياسة السادات الاقتصادية يفسرون الفشل بعامل أو آخر يندرج تحت شعار «الانفتاح الاقتصادى». وكارهو سياسة عبدالناصر يفسرون الفشل بالتدخل الزائد على الحد من جانب الدولة. ومتى اختلفنا فى ذلك فلابد أن نختلف حول طريقة العلاج. يتخذ الخلاف هنا صورة خلاف «اقتصادى»، تستخدم فيه مختلف الحجج «الفنية»، ولكنه فى الحقيقة خلاف بين أصحاب مصالح مختلفة، أو بين المؤيدين لمصالح مختلفة، أى أنه فى نهاية الأمر خلاف سياسى يتخفى فى صورة «شريفة»، أى فى صورة خلاف حول الخطأ والصواب، وكأنه من الممكن حسمه بطريقة «علمية».

 

ما أكثر ما كُتب فى تصوير التحول فى السياسة الاقتصادية المصرية فى أوائل السبعينيات وكأنه ناتج عن اقتناع رئيس الجمهورية الجديد أو مستشاريه الاقتصاديين، بمزايا الانفتاح الاقتصادى أو ضرورته، أو عن إدراكهم لاستفحال الأضرار التى نشأت عن سياسات الخمسينيات والستينيات، أو عن عجز الاقتصاد المصرى عن تحمل المزيد من الأعباء التى خلقتها السياسة الاقتصادية المطبقة فى هذين العقدين. وقد ركّزت التقارير الصادرة من صندوق النقد الدولى والبنك الدولى على أن هذا التحول كان نتيجة هذا «الاكتشاف»، أو هذا «الاعتراف بالخطأ»، الذى جاء فى نظرهما متأخرا. ومن الطبيعى أن يكون هذا هو التصدير الذى يتبناه كل من يؤيد هذا التحول ويدعو إلى المزيد منه، إذ من الصعب أن يعترف هؤلاء بأن التحول كان نتيجة انتصار قوة سياسية أو اجتماعية على قوة أخرى، وليس انتصارا للحق على الباطل، أو أن يعترفوا بأن الأخطاء التى استمت بها السياسة الاقتصادية فى الخمسينيات والستينيات كان من الممكن تصحيحها، أو على الأقل تصحيح الكثير منها، دون أن يحدث لك التحول التام فى مسار السياسة الاقتصادية، الذى حدث بالفعل.

 

إنه من الشيق أن نلاحظ التطور الذى طرأ على سلوك بعض الشخصيات المصرية المهمة، والتى لعبت دورا مهما فى تنفيذ السياسة الاقتصادية فى الخمسينيات والستينيات، بعد أن حدث هذا التحول فى السياسة الاقتصادية ابتداء من أوائل السبعينيات، نتيجة للتغيير فى المركز النسبى للقوى الاجتماعية والسياسية. إن بعض هؤلاء الأشخاص الذين شغلوا مناصب مهمة فى ظل السياسة الناصرية، حدث أن أُسندت إليهم بعض المناصب المهمة أيضا بعد حدوث هذا التحول الخطير، فإذا بنفس الشخص الذى لعب دورا مهما فى تحقيق مصالح محدودى الدخل، فى العقدين الأولين التاليين لثورة 1952، يلعب دورا معاكسا بالضبط فى العقدين التاليين، أو على الأقل يجلس مشلول الإرادة قليل الأثر، رغم أهمية المناصب التى احتلها فى ظل السياسة الاقتصادية الجديدة.

 

على سبيل المثال لا الحصر، أذكر الدكتور إبراهيم حلمى عبدالرحمن، الذى لعب دورا مؤثرا فى إنشاء وتطوير جهاز التخطيط القومى فى مصر ابتداء من منتصف الخمسينيات، وفى وضع أسس خطة خمسية للتنمية طبقت بنجاح فى النصف الأول من الستينيات. لقد عُين فى منتصف السبعينيات وزيرا للتخطيط، ثم مستشارا اقتصاديا لرئيس الوزراء، ولكن كان هذا فى عهد بدأ فيه انحسار فكرة التخطيط برمتها، فإذا بالرجل أيضا ينحسر دوره حتى كاد يختفى اختفاء تاما. مثل هذا حدث للدكتور عبدالمنعم القيسونى، وكذلك للدكتور عزيز صدقى، الذى لعب دورا مهما فى دفع عجلة التصنيع فى الستينيات، كوزير للصناعة، ولكنه لم يترك أثرا مهما عندما احتل منصب رئيس الوزراء فى السبعينيات. أما المهندس عثمان أحمد عثمان، فقد لعب هو وشركته دورا مهما فى بناء السد العالى فى الستينيات، ثم قنع هو وأسرته بمغانم الاشتراك فى الحكم ومصاهرة رئيس الجمهورية فى السبعينيات. هؤلاء جميعا وغيرهم كثيرون، غيّروا ما يطبقونه من سياسات اقتصادية، ليس بسبب تغير قناعاتهم، أو لاكتشافهم لحقيقة اقتصادية لم يكونوا يعرفونها من قبل، ولكن لتغيير فى القرار السياسى الذى اتخذه الممسكون بالسلطة.

 

فى السنوات الست السابقة مباشرة على ثورة 2011، أى خلال حكومة الدكتور أحمد نظيف، اتخذ الخلاف صورة اختلاف حول ما إذا كان المهم هو رفع معدل نمو الناتج القومى، أو تخفيض معدل البطالة، حول تشجيع الاستثمارات الأجنبية الخاصة بأى ثمن، أم أن الأفضل تعبئة المدخرات المحلية ولو بزيادة معدلات الضرائب، حول إلغاء أو تخفيض مختلف صور الدعم الذى تعطيه الدولة لبعض السلع والخدمات الأساسية، أم أن الأفضل الإبقاء على الدعم مع العمل على تخفيض صور الانفاق البذخى فيما لا يفيد التنمية، وأن تخفيض الدعم يجب أن يساير تحسين نمط توزيع الدخل ولا يسبقه. كثيرا ما اتخذت هذه الخلافات بدورها شكل الاختلاف حول مسائل فنية أو اقتصادية بحتة، بينما هى فى الحقيقة صراع بين مصالح تعبر عنها قوى سياسية مختلفة، انتصرت فيه قوة رجال الأعمال المؤيدة بقوى خارجية، هى التى سمحت لهم بالبقاء فى السلطة.

 

●●●

 

بقيام ثورة 25 يناير 2011، لم يمكن غريبا أن يحدث بعض الاضطرابات فى الحياة الاقتصادية، بسبب تدهور حالة الأمن والسياحة ومعدلات الاستثمار، وانخفاض تدفق رءوس الأموال من الخارج (سواء من الأجانب أو المصريين)، ولكننا لم نكن نتوقع أن يستمر التدهور فى حال الاقتصاد حتى بعد انقضاء عام كامل على الثورة. فما هو السبب يا ترى فى استمرار هذا التدهور: جهل بما يجب عمله، أم انعدام الرغبة فيه؟ بعبارة أخرى: هل السبب: اقتصادى فنى، أم سياسى؟

 

إن النتيجة التى وصلنا إليها فيما تقدم، بناء على ملاحظتنا لما حدث فى مصر وغيرها من البلاد، من حيث العلاقة بين القرارات الاقتصادية والقرارات السياسية، ترجح أن السبب، فى هذه المرة أيضا، سياسى وليس اقتصاديا. فالتراخى الملحوظ فى استعادة الأمن مثلا، وفى تعقب الأموال المنهوبة من رجال العهد السابق، مما سمح باستمرار  التردى فى حالة الاقتصاد، يصعب تفسيره بالجهل بما يجب عمله، بينما يسهل تفسيره بالموقف السياسى الذى يتخذه الممسكون الجدد بالسلطة إزاء أصحاب السلطة فى العهد السابق.

 

●●●

 

المهم الآن أن نسأل عما نريده أن يحدث، وما تتوقع حدوثه، للاقتصاد المصرى، بعد أن نستعيد الأمن وتسود حالة معقولة من الاستقرار.

 

لقد كان من بين الشعارات التى رفعت فى ميدان التحرير منذ الأيام الأولى للثورة، شعاران يتعلقان بالخبز والعدالة الاجتماعية. فإذا فهمنا شعار الخبز بمعنى التنمية، فهل يمكن أن يكون المرغوب فيه اقتصاديا فى عهد ما بعد الثورة، شيئا أكثر من ذلك: أى تنمية الناتج مع عدالة التوزيع؟ إن الجميع يرددون هذين الهدفين، وسيستمران فى ترديدهما بصيغة أو بأخرى، ولكن الاختلاف يظهر على الفور بمجرد أن يترجم هذان الهدفات إلى إجراءات محددة. فهل تفسر العدالة الاجتماعية بمعنى إعادة توزيع الدخل، بفرض ضرائب تصاعدية، ووضع حد أقصى وحد أدنى للدخول والأجور، (المحافظة على القطاع العام أو توسيعه، وعدم المساس بالدعم إلا بالقدر الذى تسمح به درجة التقدم فى إدارة توزيع الدخل، أم سوف تفسر العدالة الاجتماعية بمعنى يسمح بتخفيض أو حتى إلغاء الدعم بحجة «عدم وصول الدعم إلى مستحقيه»، ويفسر البطالة بأنها نتيجة للكسل فى البحث عن وظيفة. رغم توفر الوظائف، ويدعى أن أفضل الطرق لتخفيف الفقر هو زيادة معدل نمو الناتج القومى..إلخ؟

 

وفيما يتعلق بالتنمية، هل سيفضل نمط من التنمية يواجه مشكلة البطالة بمشروعات عامة وتوفير الائتمان للمشروعات الخاصة الصغيزرة والمتوسطة، أم نمط يعتمد على الاستثمارات الأجنبية الخاصة بصرف النظر عن حجم مساهمتها فى خلق فرص العمالة؟ هل ستُعطى الأولوية لتشجيع الصادرات دون المساس بحرية الاستيراد، أم سنسمح بتقييد بعض الواردات تشجيعا لبعض الصناعات المحلية التى تعانى من منافسة شديدة من الواردات؟ هل نرحب بأى فرصة لتوسيع السوق الخارجية أمام الصادرات المصرية، حتى ولو كان ثمنها إعطاء معاملة تفضيلية للإنتاج الإسرائيلى (كمكون من مكونات بعض الصناعات المصرية)، أم نقبل التضحية بجزء من الأسواق الخارجية التى تصرّ على إعطاء هذه الميزة لإسرائيل، ونحاول العثور على بديل لهذه الأسواق فى بلاد أخرى أو حتى فى السوق المحلية.. إلخ؟

 

سوف يحتدم الخلاف بلا شك بمجرد أن نحاول أن نترجم الشعارات العامة (كالتنمية والعدالة الاجتماعية) إلى إجراءات محددة، وسوف يعكس هذا الخلاف بالطبع، كما هى العادة، اختلافا فى المصالح والقوى السياسية. فما الذى يمكن أن نتوقعه من تغيير فى القوة النسبية لهذه المصالح بعد الثورة؟

 

●●●

 

إن الآثار المتوقعة لثورة يناير على مسار الاقتصاد المصرى تنبع على الأرجح من ثلاثة مصادر:

الأول: أثر الثورة على القوة الاقتصادية (والاحتكارية) لكبار أرباب الأعمال المصريين، وعلى ما كان لهم قبل الثورة من ارتباط حميم بالممسكين بالسلطة السياسية.

 

والثانى: أثر الثورة على درجة الارتباط بين الممسكين الجدد بالسلطة فى النظام الجديد، وبين القوى الخارجية التى مارست دورا لا يستهان به فى تحديد مسارنا الاقتصادى طوال الأربعين عاما الماضية، وأقصد على الأخص الولايات المتحدة وإسرائيل والمؤسستين الماليتين الدوليتين الكبريين: صندوق النقد والبنك الدولى.

 

والثالث: مدى نجاح النظام الجديد بعد الثورة فى إطلاق عقال قوى شعبية وتقوية منظمات المجتمع المدنى التى تعبر عن مصالح شرائح اجتماعية مهمة، طال تجاهلها، كصغار المزارعين، وعمال ومستخدمى المصانع، وصغار ومتوسطى موظفى الحكومة، وخريجى الجامعات، وصغار المستثمرين.

 

إن الفترة المسماة بالانتقالية، والتى انقضى منها الآن عام كامل، لم تسفر بوضوح عما يمكن أن يحدث فى أى مجال من هذه المجالات الثلاثة. ففيما يتعلق بأصحاب القوة الاحتكارية من أرباب الأعمال الكبار، وإن كان قد قُبض على بعضهم، وصدرت أحكام ضد عدد منهم، فإن التراخى الملحوظ حتى الآن فى تعقب الفساد واستعادة الأموال المنهوبة، بل وحتى فى محاكمة المقبوض عليهم، لا يبعث على اطمئنان كبير لما يمكن أن تحدثه الثورة من تغيير فى القوة النسبية لهذه «الفلول».

 

كذلك لم يصدر من الممسكين بالسلطة فى هذه الفترة الانتقالية ما يدل بوضوح على سياسة جديدة إزاء القوى الخارجية، أو إزاء القوى الشعبية التى قامت الثورة لصالحها، بل التى قامت بالثورة نفسها.

 

قد تتجه آمالنا إلى القوى الحديثة المنتخبة، متمثلة فى أعضاء مجلسى الشعب والشورى وفى رئيس الجمهورية الجديد ولكن الغموض مازال أيضا يكتنف طبقة هؤلاء الممثلين الجدد على الرغم من إتمام انتخابات مجلس الشعب، بما فى ذلك موقفهم من السياسة الاقتصادية.

 

فالمجلس الجديد، وإن كان يضم بعض العناصر الجديدة الممتازة، (بمعنى أنه من الممكن أن تدافع عن معان متقدمة وثورية لمفهومى العدالة والاجتماعية والتنمية) فإن الغالبية تتكون من عناصر، وإن كانت واضحة الهوية بلاشك من حيث موقفها من الدين، فإنها ليست واضحة الهوية من حيث موقفها من الاقتصاد. ذلك أن رفع شعار مثل «الإسلام هو الحل» لا يمكن الجزم معه بموقف من يرفعه من معظم القضايا التى أثرناها فيما تقدم: المعنى المقصود من العدالة الاجتماعية، أو المعنى المقصود بالتنمية، أو الموقف الواجب اتباعه من القوى الخارجية ومؤسسات التمويل الدولية، أو حتى موقف الدولة من المؤسسات المختلفة التى تكون المجتمع المدنى. ففى كل هذه الأمور يمكن أن يتخذ المتدين المخلص فى تدينه، موقفا أو آخر مما يصعب التنبؤ به. فالموقف يتحدد طبقا لتفضيل تفسير معين لبعض النصوص الدينية على تفسير آخر، وهذا التفضيل كثيرا ما لا يحسمه المعنى الظاهر للنص، ومن ثم يظل الباب مفتوحا لتأثير المصالح السياسية، فإذا بالموقف الذى يتخذ فى الظاهر مظهر التقوى والورع تحدده فى الحقيقة اعتبارات سياسية ومصالح شخصية أو طبيقة.

 

إن هذه الصعوبة فى التنبؤ بمسار السياسة الاقتصادية التى سيتبناها المجلس النيابى الجديد موجودة أيضا فى محاولة التنبؤ بالميول الاقتصادية لرئيس الجمهورية الجديد، على الأقل فى حدود الأسماء المرشحة حتى الآن. وهى صعوبة نتجت بالضرورة من أن ثورة يناير، رغم نجاحها فى إسقاط رأس النظام، لم تأت إلى الحكم بممثلين للثوار أنفسهم، أو للمصالح التى ثاروا من أجل تحقيقها. إنى لا أجد فى هذا شيئا غريبا بالمرة، فتفرق الثوار، وعجزهم حتى الآن عن إنتاج زعماء يقودون مسيرتهم، ويبلورون أهدافهم فى خطوات محددة، نتيجة طبيعية فى رأيى لأكثر من ثلاثين عاما من مناخ اقتصادى وسياسى وثقافى وإعلامى فاسد. ومن التعنت والقسوة مطالبة الشباب بأن يتقدموا ببرنامج يحدد بوضوح الأهداف الاقتصادية والخطوات واجبة الاتخاذ لتحقيقها، بعد هذه الفترة الطويلة من العقم والفساد، والتى يزيد طولها على أعمار معظم الثوار أنفسهم. ولكن الفرصة بالطبع لم تضع. فالصراع لم ينته، بل لعله قد أوشك أن يبدأ.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved