اسألوا الشعب إن كان يسامحهم

أميمة كمال
أميمة كمال

آخر تحديث: الأحد 3 فبراير 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

بينما كانت الصفحات الأولى للجرائد فى صباح يوم 26 يناير الماضى تتصدرها صور لمشاهد الاشتباكات العنيفة، والمظاهرات الحاشدة، التى اختفت فيها أجساد المتظاهرين الغاضبين، بفعل كثافة الدخان المنبعث من قنابل الغازات المسيلة للدموع، ظهر وسطها خبر للمتحدث الرسمى للنيابة العامة، يبشر رجال الأعمال بأن مكتب النائب العام، يرحب بأى واحد منهم، يرغب فى التصالح فى قضايا الأموال. بشرط أن يكون «لديه رغبة جادة، ويريد رد أموال الشعب، لكى يتصالح مع نفسه، ومع الشعب». ولم يجد المتحدث أى غضاضة فى أن يضيف بأن التصالح متاح، حتى لو كانت القضية قد انتهت بحكم قضائى، يدين المتصالح. أى أن النائب العام سيتصالح مع رجل أعمال أدانته المحكمة، وثبت لديها أنه فاسد، سرق أموالا، أو نهب شركات عامة وخربها، أو استولى على أراضٍ، ليس له حق فيها. وهو فى سبيل ذلك قد افسد معه بالضرورة مسئولا، سهل له الفعل الفاسد. أى أن الرجلين، الأعمال و الحكومى، قد تشاركا سويا، فى ضياع أحلام كثيرين، ممن تمتلئ بها صور المظاهرات والمواجهات والاشتباكات.

 

وأراهن على أن هذه الصفحة الأولى من الجريدة سوف تكون عونا كبيرا للمؤرخين، عندما يعكفون على كتابة تاريخ هذه الأيام من ثورة يناير. بل وستساعدهم على تقديم تفسير، لكل هذا القدر من الغضب والعنف. الذى يبدو جليا على وجه صبى صغير يحمل حجرا، وكأنه سلاحه، قاذفا به فى الهواء على آخر ما تستطيع يده أن تصل به، فى وجه عسكرى، تبدو ملامحه قريبة الشبه بالصبى. أو على تقطيبة جبين شاب ملثم، يمسك بقنبلة الغاز الملتهبة، التى ألقتها قوات الامن عشوائيا ناحيته. فيعيدها للناحية الأخرى التى أتت منها. أملا فى أن تملأ رائحة الدخان صدور من ألقاها فى وجهه. وعندما يرى أحدهم يختنق من الرائحة، يشعر بنشوة الانتصار. وبأنه قد نجح فى أن يذيقه من نفس الكأس. أو على ملامح فريق المشجعين الذين يسرعون الخطى، لاستحضار الحواجز الحديدية، ويضعونها أمام حاملى الأسلحة من الحجارة، وقنابل الدخان، والمولوتوف ليحتمون وراءها. أو فى شرارة أعين هؤلاء الذين يجهزون الماكينة (الموتوسيكل) على وضع الاستعداد، لكى يكونوا تحت طلب المصابين، الذين يسقطون فجأة فيحملونهم بعيدا عن ساحة المعركة لإسعافهم.

 

•••

 

قد لا يكون من السهل على الكثيرين أن يجدوا ثمة رابط بين عنف المشهد الذى نراه بأعيننا على الأرض، وبين محاولات النظام الحالى بأجهزته القضائية، والتشريعية، والتنفيذية، وبشركائه من رجال الأعمال الجدد أن يمنحوا رموز النظام السابق صك البراءة، مقابل دفع حفنة من الملايين. ملايين لن تعيد أحلام من فاتهم فرص التعليم أو الزواج أو السكن أو بالأدق من انقضت فرصته فى أن يحيا حياة آدمية بسبب ممارسات هؤلاء، الذين يريدون أن يعيدوهم للمشهد ثانية. ولكن أصحاب المبادرات التصالحية يتجاهلون ذلك الرابط لأنهم يدركون تماما أن ما فعلته عناصر ورموز النظام الراحل، ليس ببعيد عن سياسات النظام الذى يؤسسون له ويساندونه ويقيمون دعائمه. لذلك لا يبدو غريبا أن يتخيروا بعض الرموز، ويزرعوها مرة أخرى داخل دوائرهم.

 

أرجح ولا أستطيع أن أجزم أن من بين الموجودين فى الصفوف الأولى من المواجهات الحالية فى ساحات الاشتباكات، ذلك البائع المتجول الذى قابلته ذات يوم يفترش أحذية مستعملة فى أحد شوارع، وسط البلد بالقاهرة والذى تعيش عائلته فى الفيوم، التى يعشقها. ولكنه تركها رغم العشق، بعد أن فقد حلمه فى أن يتعلم ويحصل على بكالوريوس الزراعة الذى كان معتقدا أنه هو ما يؤهله لكى يزرع أرضا. حلم أن يتملكها ذات يوم. ولم يسمح لنفسه، بأن يزيد حلمه عن تملك عدة قراريط. ولكن كملايين غيره من الفلاحين أعينهم بصيرة، ولكن أياديهم كلها قصرت بدرجة لا تستطيع معها تحقيق أحلام أولادها. كان عليه أن ينسى حلمه، ليزوج أخواته البنات. فكانت شهادة الابتدائية، هى كل مؤهله للعمل مع رفقاء الرصيف. هذا البائع كان يقول بعلو صوته، إنه يكره البيع والشراء فى الشارع. ويكره نظرات الناس له باحتقار. وكان واثقا بأنه لو تعلم، لكان أفضل حالا، من كثير من هؤلاء الذين يحتقرونه.

 

هذا البائع لم يتعلم لأن رجل أعمال ممن يريدون التصالح معهم الآن، كان السبب فى إفقار أهل البائع، لأنه كان يحصل على ملايين من أموال الدولة، التى رصدتها فى الموازنة لصالح صندوق دعم الصادرات لسنوات طويلة، على حساب المخصصات المالية الموجهة لموازنة التعليم. التى لو زادت لاستطاع هذا البائع، ورفقاء الرصيف أن يكملوا تعليمهم. ولو لم يستول رجل أعمال آخر على ملايين الأفدنة من الأراضى المستصلحة بملاليم لزراعتها، وحولها إلى منتجعات سياحية باعها بالمليارات، لكان بائع الرصيف والآلاف من الغاضبين فى الشوارع الآن قد زرعوا طينا بطول مصر وعرضها. دون أن يضطروا إلى أن يتركوا أرضا عشقوها، ولا أهلا أحبوهم، ويمضون حياتهم على الرصيف.

 

•••

 

وأرجح أيضا، ولا أستطيع أن أجزم أن من بين فريق الغاضبين فى ساحات الاشتباكات، ذلك الرجل الذى تدمع عينيه، كلما تذكر كيف انقلبت حياته بعد أن كان يقضى الساعات فى ورديته بالمصنع، مستمتعا بصوت المكن، الذى لا ينافسه سوى صوت الست أم كلثوم. صوت ماكينته لم يفارق أذنيه بعد أن ترك العمل مجبرا على أثر خصخصة الشركة بالكامل والاستغناء عنه مع كثيرين غيره بفضل صفقة كريهة الرائحة، طرفاها مستثمر فاسد، شاركه فيها مسئول حكومى.

 

وأرجح، ولعلى أقترب من الجزم بأن من بين المشاركين فى ساحات الغضب، مدرس التاريخ الشاب الذى كان الأول على دفعته فى الجامعة والذى يشبه كثيرا الزعيم غاندى فى هيئته. ذلك المدرس الساخط على أوضاع المدرسين بعد أن صمد سنوات دون أن يعطى دروسا خصوصية رحمة بأولياء أمور تلاميذه الفقراء متحملا قسوة أن يعيش بمرتب لا يتعدى 760 جنيها يدفع عنه ضرائب 10%. وينفق قدرا لا بأس به من هذا المرتب الهزيل شهريا، من أجل الفوز بأنبوبتى بوتاجاز. فى وقت تلوح فى الأفق رسائل متبادلة، تبشرنا بقرب عقد تصالح مع رجل الأعمال الذى سرق غاز مصر، وصدره إلى إسرائيل بتراب الفلوس، فى صفقة أذاقت للمصريين طعم العلقم. وقطعت قدرا لا يستهان به من مرتب مدرس التاريخ، الذى لا يكفيه بالأساس.

 

•••

 

وأقرب للجزم منه للترجيح، أن يكون وسط ساحات العنف ابن من أبناء أحد سائقى القطارات، الذى فقد أبوه فى حادث من حوادث القطارات العديدة، من جراء الفساد الذى استشرى فى هيئة السكة الحديد وأوقف أى قدرة على إصلاح أحوال القطارات، والعاملين عليها. ولعله قد ظل عالقا فى ذهنه ما كان يسمعه حول صفقة وزير النقل، الذى كان رجل أعمال بالأساس، والذى اشترى جرارات من شركة أمريكية، أقسم والده وزملاؤه على أنه أضاع فيها 800 مليون جنيه من المال العام. إلا أن موجة الفساد كانت أعلى من والده ورفاق القطار فاضطروا أن يخفضوا رءوسهم حتى تمر. إلا أن والده قد مات، وظل الوزير صاحب الجرارات فاسدة الرائحة، ينعم بمغانم الصفقة. وأقصى ما فعلته هيئة السكك الحديدية هو مطالبة الشركة الأمريكية بإصلاح القطارات.

 

وأجزم، ولا أرجح أن فى ساحات الغضب حاليا ضحايا كثيرين، حرموا حتى من نعمة الحلم بسبب من تمدون لهم أياديكم بالتصالح معهم. وأموال الدنيا لن تعيد لهم حلمهم. وربما يكون القصاص منهم، وليس التصالح معهم، هو ما يوقف غضبة معارك الشوارع. فاسألوهم إن كانوا يسامحون.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved