هل يُصلِح «دافوس» ما أفسدته العولمة؟!

محمد يوسف
محمد يوسف

آخر تحديث: الإثنين 4 فبراير 2019 - 11:50 ص بتوقيت القاهرة

ترجع الشهرة الواسعة للمؤتمر الاقتصادى السنوى الذى يُنظم فى شتاء مدينة «دافوس» السويسرية، لكونه بات ككعبة تحج إليها «النيوليبرالية» بأضلاعها الرئيسية الثلاثة، حكومات الدول الرأسمالية الصناعية، والمنظمات الاقتصادية الدولية، وكبريات الشركات العالمية. وفى أحضان جبال الألب السويسرية، تشتبك وتتعارض وتتباين رؤى المجتمعين حول القضايا الاقتصادية المطروحة للنقاش. ولكن ما يجمعهم على ما بينهم من تباين وشقاق، هو أنهم جميعا يشتركون فى مرجعية نيوليبرالية لا يحيدون عنها قيد أُنمله.


ورغم كل الصخب الدعائى والإعلامى المصاحب لهذا المؤتمر السنوى، والذى يجاهد فى سبيل إظهاره بالمنبر الذى يناقش القضايا الاقتصادية التى تواجه جميع اقتصادات العالم، والتى أفرزتها ــ ومازالت تفرزها ــ العولمة، إلا أن الأمر على حقيقته لا يعدو عن كونه مؤتمرا يستهدف مناقشة القضايا الملحة للعالم المتقدم وحده، ويسعى لرأب الصدع المتزايد فيما بين مراكزه، ولا يُعير قضايا ومشكلات العالم النامى أى اهتمام، اللهم إلا ذر بعض الرماد فى أعين المتابعين من هذا العالم!


***
منذ أن فطنت «النيوليبرالية» لأهمية وجود محفل دولى يعبر عن تطلعاتها لمستقبل الاقتصاد العالمى الذى تحكمه، ويجمع مكوناتها المختلفة للتباحث حول هذه التطلعات، استغلت منظمة «المنتدى الاقتصادى العالمى» هذه الفرصة، وأخذت زمام المبادرة، واجتهدت فى تأسيس منتدى عالمى يواكب الصعود اللامع لهذه النيوليبرالية، مقدمة نفسها على أنها منظمة دولية مستقلة ومحايدة للتعاون بين الحكومات والشركات الخاصة، وهدفها الوحيد هو المساهمة فى تحسين أحوال الاقتصاد العالمى. وابتداء من مطلع سبعينيات القرن الماضى، ينجح هذا المنتدى فى احتلال مكانة عالمية مرموقة، ويكسب ثقة متزايدة من صانعى السياسات الاقتصادية فى العالم المتقدم، ويغازل طموح نظرائهم فى بلدان العالم الثالث. بيد أن النجاح المشهود الذى حققه هذا المنتدى، لم يستطع معه إخفاء عيبه الرئيسى الذى يبدو لكل ذى عينين؛ وهو التحيز الواضح فى أجندته السنوية؛ ليس فى نوعية ما تطرحه هذه الأجندة من قضايا ومشكلات فحسب، وإنما فى المنهجية التى تتبناها فى عرضها وتحليلها، وفى دعوتها للمشاركين فى وقائع هذا المؤتمر.


فلو أخذنا محتويات أجندة المؤتمر الأخير لهذا المنتدى للاستدلال على صحة ما نقول، سنجد أن ما حملته من قضايا كان يدور أغلبها حول العوامل المختلفة التى تسببت فى تباطؤ نمو الاقتصاد العالمى، وحول الآثار المختلفة للثورة الصناعية الرابعة، وتتناول أزمة المُناخ والتغيرات البيئية الضارة. وفى تصورنا أن هذه القضايا الرئيسية الثلاث لا تشتبك مع الأوجاع الملحة للعالم النامي؛ فهى تبدأ من العالم المتقدم وتنتهى إليه. وهو ما يؤكد لنا عيوب التحيز فى اختيار موضوعات هذا المنتدى.


على أن عملية اختيار الموضوعات التى تهم العالم المتقدم دون غيره، تعكس لنا بدقة الرؤية الاقتصادية التى يتبناها منظمو منتدى دافوس. فمن ناحية، يعزو تباطؤ نمو الاقتصاد العالمى للتراجع فى معدلات نمو اقتصادات الدول الصناعية السبع الكبرى، كنتيجة مباشرة لتراجع الانتاجية الكلية لعناصر الإنتاج بها، وكنتيجة لدخول بعض مراكزها فى صراع وصدام مباشر مع الاقتصاد الصينى. وبالتالى، فمن البديهى أن يكون السعى للخروج من وهدة الكساد العالمى هو فقط هم الذين يعانون من وطأته؛ وهو الدافع لاجتماعهم سويا للمناقشة فى الآليات المناسبة للخروج السريع منه. وحتى لو كانت شظايا هذا التباطؤ تصل لاقتصادات العالم الثالث، من قناتى تجارتها الخارجية والاستثمارات الأجنبية المتدفقة إليها، فإنها مع ذلك ستظل محدودة التأثير فى دفع عجلة النمو الاقتصادى العالمى، وستبقى فى وضع المفعول به، لا فى وضع الفاعل الذى يبحث عن الحلول الممكنة.


ومن ناحية ثانية، فإن قضايا الثورة الصناعية الرابعة (نتجت هذه الثورة بسبب التداخل بين التقنيات المادية والرقمية والبيولوجية على حد وصف الاقتصادى الألمانى «كلاوس شواب» رئيس منتدى دافوس، ومؤلف كتاب الثورة الصناعية الرابعة)، وإن كانت لها تأثيرات عالمية الانتشار، إلا أن اعتماد هذه الثورة بصفة رئيسية على التكنولوجيا فائقة التقدم، يجعل من غير المجدى أن يُدعى من لا يملكون ناصية هذه التكنولوجيا للاشتراك فى مناقشة كيفية تعظيم إيجابياتها، أو البحث فى سبل السيطرة على شرورها الاجتماعية والاقتصادية. فالقدرة على تصنيع وريادة التكنولوجيا المتقدمة هو إذن بمثابة جواز السفر للاشتراك فى هذا النوع من المؤتمرات.


ومن ناحية أخرى، ونظرا لوجود علاقة وطيدة بين النمو الصناعى والتكنولوجى وبين تلوث الهواء وزيادة الاحترار العالمى، فإن السعى لصياغة استراتيجيات متطورة للتصدى لهذه المشكلة البيئية العويصة، يجب أن تُقصر مناقشته على قادة العالم المتقدم؛ إما لأن هذا العالم هو من يملك مراكز الأبحاث المتقدمة، بما تحوزه من قدرات بشرية ومالية وتكنولوجية تمكنها من البحث عن الحلول البيئية؛ أو لأن جزءا مهما من هذه الاستراتيجية، وبكل أسى، يتمثل فى الاستمرار قدما فى نهج طرد الصناعات الملوثة للبيئة (كصناعات الأسمنت والأسمدة الكيماوية) من العالم المتقدم، لكى تتوطن وتتوسع فى بلدان العالم الثالث، كون بلدان هذا العالم مازالت لا تكترث كثيرا لقضاياها البيئية!


وعلى كل حال، فإن هذا الاختيار التحكمى للقضايا الاقتصادية المطروحة للنقاش فى «دافوس»، يجعلنا نؤكد أن هذا المنتدى هو مجرد محفل رائد لبلدان العالم المتقدم، وأنه لم يرق ليصبح المحفل الجامع والمعبر عن جميع القضايا والهموم ذات الطابع العالمى، مهما ادعى منظموه غير ذلك، ومهما ظهر ضيوف من أبناء العالم الثالث فى أروقته وقاعاته وعلى منصاته.


***
لا شك لدينا الآن فى أن الفجوة مازالت واسعة بين المحفل العادل الذى يتطلع إليه النظام الاقتصادى العالمى بمكوناته المتقدمة والنامية، وبين منتدى دافوس بصورته الحالية. فلأن العولمة قد أفسدت على العالم النامى العديد من مقدراته، فإن بلدان هذا العالم فى حاجة لمنتدى عالمى يتناول، بقدر معتبر من الموضوعية والحيادية، قضاياها الملحة بالتحليل والتمحيص.


وبشكل عام، ولكى يصلح وصف أى منتدى اقتصادى بأنه عالمى حقا، يجب أن تمزج أجندته السنوية قضايا ومشكلات العولمة الاقتصادية بأبعادها المختلفة، إذ يجب أن يتناول المنتدى واحدا أو أكثر من القضايا التالية:


ــ أن يتناول مسببات ونتائج الوضع اللا متكافئ لمجموعة البلدان النامية فى النظام الاقتصادى العالمى، وتخصصها فى إنتاج وتصدير المواد الخام بأسعار رخيصة، وما يترتب على ذلك من استنزاف مواردها الاقتصادية الناضبة، بنفس الأهمية التى يتناول بها قضية التباطؤ فى معدلات نمو الاقتصادات الرئيسية فى العالم.


ــ أن يتصدى للمشكلات المترتبة على التحرير غير الرحيم لأسواق الدول النامية أمام سيول المنتجات الصناعية المصدرة إليها من الدول المتقدمة، ويتناول، فى ذات الوقت، المكاسب غير العادلة من التحرير الرحيم لأسواق الدول المتقدمة أمام الصادرات الزراعية من الدول النامية، تماما كما يتصدى لقضايا الثورة الصناعية وآثارها على اقتصادات بلدان العالم المختلفة.


ــ أن يركز على إبراز الآثار الضارة للمضاربات المالية من قبل الصناديق الاستثمارية الدولية فى أسواق المال فى الدول النامية، مثلما يهتم بمناقشة قضايا تحرير حساب رأس المال فى هذه الدول، ومثلما يركز على مناقشة القضايا المرتبطة بتدفقات الاستثمار الأجنبى المباشر بين الدول.


ــ أن يسلط الضوء على الآثار السلبية لسيطرة الدولار وعملات البلدان المتقدمة على مكونات السيولة العالمية، وأثر هذه السيطرة على استنزاف شطر مهم من الفوائض الاقتصادية المحققة فى بلدان العالم الثالث، مثلما يمنح وقتا ممتدا لمناقشة قضايا الشركات العالمية، ولمشكلات الصراع التجارى بين الأقطاب الرئيسية فى العالم.


ــ أن يحلل محددات الكفاءة والعدالة فى أسلوب إدارة وتوجيه المنظمات الاقتصادية الدولية، وأثر تبنى هذه المنظمات لأيديولوجيات اقتصادية لا تتفق بالضرورة مع طبيعة مشكلات بلدان العالم المتباينة فيما بينها فى درجة التقدم الاقتصادى، بنفس الطريقة التى يحلل بها كفاءة المؤسسات الاقتصادية فى كل دولة على حدة.


ــ أن يهتم بقضية المديونية العالمية، ويبحث فى مسبباتها وآثارها على استقرار الاقتصاد العالمى، ويكشف حدود مسئولية الدول الدائنة فى تفاقم مديونية الدول الفقيرة، مثلما يولى اهتماما بقضايا تفاوت مستوى الإنتاجية بين أغنياء العالم وفقرائه.


ــ أن يعتنى بالبحث فى القضايا المرتبطة بالتوسع الشديد فى الإنفاق العسكرى فى أغلب بلدان العالم، مثلما يتناول بالتمحيص الأسباب الحقيقية لتفاقم ظاهرة تلوث البيئة، ومسئولية كل من الدول المتقدمة والدول النامية عنها.


وبدون التنويع فى الموضوعات التى سيتناولها، وبغياب الحيادية فى طرح ومناقشة هذه الموضوعات، ومن دون الموضوعية فى اختيار الوفود المشاركة فى وقائعه، وبدون خلق آليات عالمية قادرة على وضع توصياته موضع التنفيذ، سيظل أى منتدى دولى مجرد «مكْلَمة» يستعرض فيها الحضور مهاراتهم فى العرض والإلقاء والتأثير الكلامى، وستظل صفة العالمية بعيدة المنال عن أى منتدى يدعى أن مظلته تغطى جميع القضايا العالمية.


**
هناك مبرران للجدل الذى نتوقع أن يخلقه التقييم السابق لمنتدى دافوس. الأول سيتبناه قطاع من الباحثين الذين ينبهرون بمثل هذه المنتديات، من الذين يمنحون ثقتهم البحثية للمظاهر الخادعة. فنفيِنا لصفة العالمية عن هذا المنتدى ستثير حفيظتهم الاقتصادية، لاعتقادهم المسبق بأن الدول النامية مسئولة مسئولية كاملة عما آلت إليه أوضعها الاقتصادية، مع إهمالهم، شبه الكامل، لدور النظام الاقتصادى الدولى فى وصول هذه الدول لتلك الأوضاع. ولذلك، فمناقشة قضاياها الملحة ليست لازما على منتدى «دافوس»، وأن عليها أن تبحث لنفسها وبنفسها عن منتدى يتبنى تلك القضايا. أما المبرر الثانى فسيتبناه العديد من أصحاب الشركات العاملة فى الدول النامية فى القطاعات الاقتصادية غير التنموية، والعديد من التكنوقراط الذين استفادوا، بطريقة أو بأخرى، من موجات العولمة المتتابعة. فهاتان الفئتان لا تهتمان كثيرا بجدوى مثل هذه المنتديات الدولية لبلدانهم النامية؛ فالمهم أن يحظيا بفرصة للمشاركة والحضور، حتى ولو كانت من النوع الباهت. وبين هؤلاء وأولئك، سنظل نؤمن بحتمية وجود منتدى عالمى يحاول إصلاح ما أفسدته العولمة، ويسعى للتصدى الحقيقى لشرورها وآثامها!

خبير اقتصادى

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved