تحولات النظام العالمي.. وفرصة مصر للانطلاق الاقتصادي

أيمن زين الدين
أيمن زين الدين

آخر تحديث: الجمعة 3 فبراير 2023 - 8:45 م بتوقيت القاهرة

لم يتناول النقاش حول أزمة مصر الاقتصادية بالقدر الكافى أحد أهم المحاور المؤثرة على الاقتصاد، وهى المتعلقة بسياقه الخارجى. صحيح أنه لم يغب كلية، إلا أنه ركز على مسئولية الظروف الخارجية عن الأزمة، أو ما يمكن الحصول عليه من موارد مالية خارجية كاستثمارات أو قروض أو حصيلة بيع أصول مصرية لمستثمرين أجانب. إلا أن ما يتعلق بوضع الأزمة فى إطار التحولات الكبرى التى يشهدها النظام الدولى، وما تستدعيه من تغيير فى سياساتنا الاقتصادية، وما تتيحه لنا من فرص، فلم يحظ إلا بأقل الاهتمام، رغم دوره الحيوى فى كل تجارب النجاح الاقتصادى فى العصر الحديث، وتأثيره على مصر بوجه خاص بسبب موقعها وحاجتها الملحة إلى سد الفجوة بين الادخار والاستثمار، واستيفاء احتياجاتها من المدخلات، والتكنولوجيا، والارتباط بشبكات الإنتاج والتوزيع العالمية.
وسنحاول هنا التعرض بالتحليل لهذا الأمر الهام، وكيف يمكن أن يسهم فى تحقيق النقلة التنموية الكبرى التى تحتاجها مصر.
• • •
رغم ما يحيط باللحظة الحالية من اضطراب، فإن ملامح التحولات الكبرى التى ستطرأ على النظام الاقتصادى العالمى بدأت تتبلور، وتأكد أنه سيختلف جذريا عن الذى عهدناه منذ الثمانينيات، وحدد مسار النهضة الكبيرة التى حققتها دول عديدة، وكان أساس البرامج الاقتصادية التى توصى بها المؤسسات الاقتصادية الدولية.
فحتى وقت قريب، عاش النظام الاقتصادى العالمى عصر «العولمة»، القائم على الحركة الواسعة لرءوس الأموال والسلع والخدمات عبر الحدود، وانتشار مراكز الإنتاج وسلاسل القيمة Value chains، وتراجع دور الاعتبارات الجيو ــ استراتيجية فى العلاقات الاقتصادية الدولية، ليكون تعظيم الكفاءة والربح هو المحدد الحاكم، وساد الاعتقاد، خاصة فى الغرب، أن النمو والرخاء والتبادل الاقتصادى كفيل بتحقيق مصالحه الاستراتيجية عن طريق خفض أسباب الصدام وزيادة التقارب كما جرى فى غرب أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، والحد من الضغوط المؤدية إلى الهجرة والجرائم عابرة الحدود، وتشجيع التحول نحو الديمقراطية واقتصاد السوق.
وقد أطلق ذلك موجة مد تنموى كبرى، ارتفعت بها العديد من الدول النامية التى أحسنت إدارة اقتصادها الكلى والحقيقى معا، واندمجت فى الاقتصاد العالمى من خلال سياسات تمكنها من المشاركة الفعالة فى أنشطة التجارة والاستثمار والتصنيع العالمية، فكان أن صعدت إلى مواقع أرقى على سلم التنمية، وارتفع نصيبها من الصادرات والاستثمارات العالمية.
للأسف، ظلت مصر على حافة هذا المد الكبير، تتطلع للحاق به ولكن دون استجماع مقومات اقتحامه، فى صورة إرادة جادة للتغيير، ورؤية تنموية متكاملة، ثم الجهد اللازم لتطوير الاقتصاد الحقيقى وإكسابه التنافسية التى تجذب الاستثمارات وتحقق طفرة إنتاجية وتصديرية، ومعدلات نمو فائقة ومتواصلة كالتى شهدتها الدول التى صعدت معه. لذا ظلت مصر تعانى من ضغوط هذا المناخ الاقتصادى الشاق، لكن دون أن تستفيد من فرصه.
• • •
كان هذا عصر العولمة الذى نطوى صفحته، صعد معه من صعد، وفاته من فاته، لنقف اليوم أمام عصر اقتصادى جديد تتشكل ملامحه. فمنذ الأزمة المالية التى بدأت عام 2007، وما أظهرته من أوجه اختلال فى النظام الاقتصادى العالمى، ثم صعود تيارات القومية الاقتصادية ومعاداة العولمة من اليسار واليمين، خاصة على يد الرئيس الصينى شى جين بينج والرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب، تباطأت حركة رءوس الأموال والتجارة والاستثمار العالمية، وبدأت القواعد والمؤسسات والأعراف التى قامت عليها العولمة تهتز. ثم جاء وباء كورونا، وكذلك التوقف القصير للملاحة فى قناة السويس، لتشعر الدول المتقدمة بمخاطر طول سلاسل الإمداد والاعتماد الزائد فى تدبير احتياجات ضرورية من خامات ومدخلات ومنتجات رأسمالية واستهلاكية على مصادر بعيدة، معرضة باستمرار للاضطراب مسببة متاعب اقتصادية خطيرة.
إلا أن القشة التى قصمت ظهر بعير العولمة كانت الغزو الروسى لأوكرانيا، الذى رسخ عودة الاعتبارات الاستراتيجية إلى قلب العلاقات الاقتصادية الدولية، بما فيها قرارات الاستثمار والاستيراد والتصدير، ليس فقط نتيجة تبادل الإجراءات الاقتصادية العدائية بين روسيا والدول الغربية، وإنما أيضا لأنه أكد بشكل حاسم التوجه نحو توفيق علاقات الاستثمار والتجارة مع العلاقات الاستراتيجية، تحالفا أو اختلافا.
الخلاصة هى أن النظام الاقتصادى الدولى مقبل على إعادة هيكلة عميقة، تتخذ فيها الاعتبارات الجيو ــ استراتيجية مكانة محورية، لتزاحم اعتبارات الكفاءة والربحية، سواء بغرض تأمين مراكز الإمداد والأسواق، وسرعة الوصول منها وإليها، أو للحد من المعاملات مع الخصوم، دافعة الدول والشركات الكبرى ذات الارتباطات عابرة الحدود نحو إعادة توزيع سلاسل الإمداد والأسواق، والبحث عن مواقع أكثر قربا وأمانا لأسواقها ومواردها، وبعد أن كان شعار عصر العولمة هو السعى لنقل مراكز الإنتاج إلى حيث يكون أكثر كفاءة وربحية Offshoring، سيتجه العالم إلى بناء سلاسل التكامل الاقتصادى بما يعكس عوامل الجغرافيا السياسية، ليظهر مفهوم جديد Friendshoring، بمعنى الاعتماد على الروابط مع الدول الأقرب سياسيا.
لا يعنى ما سبق الفناء التام لنتائج العولمة، بمعنى قيام الاتحاد الأوروبى مثلا بسحب استثماراته من الصين، أو توقف الأخيرة عن التجارة مع الولايات المتحدة. فالمصالح المرتبطة بتوزيع العمل الدولى الذى أنتجته العولمة ضخمة، ولا يتحمل أحد خسائر العودة الكاملة عنها. لكن ما سيحدث هو أن نمط واتجاهات حركة الاستثمار والتجارة ستتأثر بشدة بالقرب الجغرافى والتقارب السياسى.
• • •
بينما تَطَلَّب الاستفادة من فرص العولمة اتباع سياسات اقتصادية ليبرالية حازمة، وانفتاح العلاقات الاقتصادية الخارجية، وإقامتها على أسس اقتصادية بأقل قدر من الحسابات السياسية، تستدعى الاستفادة من الواقع الجديد سياسات تجمع بين الاعتبارات الاقتصادية والسياسية معا. وهنا تتجلى الفرصة الكبيرة التى تتاح لمصر اليوم، متمثلة فى إمكان استثمار قيمتها السياسية الإقليمية والدولية لإحداث نقلة فى فاعلية جهودها التنموية لتخرجها نهائيا من دائرة الفقر والأزمات المتكررة.
مثل هذا المسار يتطلب سياسة خارجية تخدم مشروع التنمية والتحديث بمختلف أبعاده، من خلال بناء علاقات استراتيجية بشريك دولى، تشمل مشاركة اقتصادية كاملة كما جرى بعد الحرب العالمية الثانية فى مشروع مارشال الأمريكى فى أوروبا الغربية، أو مشروع التصنيع السوفيتى فى دول حلف وارسو، وليس الدعم المتحفظ الذى تلقته مصر من هاتين القوتين عندما تعاونت معهما فى مراحل تاريخية مختلفة، دون أن يعنى ذلك طبعا إهمال العلاقات مع باقى القوى العالمية، أو تجاهل دوائر علاقات مصر التقليدية.
فما هى إذن معايير المفاضلة بين الشركاء فى هذا السياق؟ بديهى أن يكون فى مقدمتها تفوق المؤهلات المالية والصناعية والتكنولوجية، والمكانة الاقتصادية العالمية، يضاف إليها اقتناع الشريك بقيمة المشاركة الدولية فى التنمية، بمعنى ألا تكون علاقاته الاقتصادية الخارجية انتهازية مصلحية ضيقة. إلا أن المعيار الفاصل يظل توافر الرغبة والمصلحة الاستراتيجية فى مساندة مشروع تنموى فى مصر وفى استقرارها وتقدمها ورخائها، وهو ما يتعزز بوجود قدر من القرب الجغرافى. بعبارة أخرى، فإن هذا يتطلب أن توفق مصر بين خريطة علاقاتها الاقتصادية وخريطة تحالفاتها الاستراتيجية، ليكون ذلك الشريك فى مركزها.
معلوم أن هذه المكاسب الاقتصادية تقابلها معضلة تبعات العلاقات الوثيقة مع قوة كبرى من التزامات سياسية، كما تجلى فى دورات علاقات مصر الخارجية بالقوى العالمية بعد استقلالها، ليصبح التحدى هو إيجاد الشريك الذى تتفق توقعاته السياسية من مصر مع أولوياتها، أو تكون على الأقل فى إطار الممكن والمقبول، علما بأنه لن يوجد شريك ليس له أى مطالب تبرر استثماراته فى هذه العلاقة. ولما كان النظام الدولى يتخذ شكل مواجهة بين الديمقراطية الليبرالية، وبين القومية الأوتوقراطية، فإن حسابات القوى الدولية تجاه مصر ستتعلق أساسا بموقفها من هذه المواجهة، وبالتالى فلسفة الحكم ونظامها السياسى، أكثر مما تتعلق بالملفات الإقليمية. هذه العوامل ستحدد مدى ثقة الشريك واستعداده لوضع ثقله والتزامه الصلب وراء مصر واستثماره فى تنميتها وتقدمها، مطمئنا إلى أن العلاقات معها ستصمد أمام الأزمات والمواجهات الاستراتيجية، وهو ما يشابه مناخ الحرب الباردة أكثر مما يشابه عصر العولمة.
مشاركة بهذه المواصفات تتيح لمصر فرصة تاريخية لتعويض ما فاتها وتحقيق الانطلاق الاقتصادى الذى طالما راوغها. إلا أنها يمكنها أيضا أن تختار تجنبه مع ما يأتى به من أعباء وتحديات، وأن تبقى على البر كما فعلت فى عصر العولمة حتى فاتتها موجة المد التنموى التى جاءت معه. فلحظات الاختيار الكبرى هذه لا تأتى كثيرا فى حياة الأمم، وهى تضع مصر أمام قرار مصيرى بين أن تضع قدمها على منحنى صعودى يذهب بها إلى آفاق عظيمة، طاوية صفحة الفقر والتخلف مثلما طوت صفحة الحكم الأجنبى والاستعمار فى النصف الأول من القرن العشرين، أو أن تقابلها بروح مترددة وفكر تقليدى تضيع هذه الفرصة الكبيرة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved