بين الحربين.. من عبء الرجل الأبيض إلى أفول الغرب

عمرو حمزاوي
عمرو حمزاوي

آخر تحديث: الجمعة 3 فبراير 2023 - 8:45 م بتوقيت القاهرة

إذا كانت أوروبا فى عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين قد تورطت فى حروب حدودية كثيرة (حروب البلقان نموذجا)، وفى حروب أهلية شهدت تدخلات من قوى خارجية (الحرب الأهلية الإسبانية مثالا)، وفى قمع حكومات الدول الاستعمارية كبريطانيا وفرنسا لحركات التحرر الوطنى فى المستعمرات، وفى سباقات تسلح محمومة (التطور غير المسبوق آنذاك فى صناعة الغواصات الحربية وفى التوظيف العسكرى للطائرات وفى الأسلحة الكيماوية)، وفى صراعات داخلية بين يمين متطرف (الفاشية والنازية) ويسار عنيف (الأحزاب الشيوعية الراديكالية) استغلا الأزمات الاقتصادية والاجتماعية لاجتذاب تأييد قطاعات شعبية واسعة (تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية فى ١٩٢٩)؛ فإن فترة ما بين الحربين اتسمت أيضا بحراك علمى وتكنولوجى وصناعى واسع النطاق وبنهضة فنية وثقافية جعلت من برلين وباريس ولندن وفيينا وبودابست وبراغ عواصم عالمية للموسيقى والسينما والموضة.
غير أن تناقضات التقدم الأوروبى بين الحربين رتبت شيوع الكثير من التفكير النقدى فى واقع الحضارة الغربية والكثير من الشك فى مستقبلها بعد قرون من الصعود المتواصل للأوروبيين الذين استعمروا العالم القديم واستوطنوا العالم الجديد وسيطروا على خطوط الملاحة والتجارة بين القارات واحتكروا الموارد الطبيعية عالميا وراكموا الثروات ووظفوها فى ثورتهم الصناعية على نحو ضمن لهم تفوقا عسكريا واقتصاديا وتكنولوجيا على غيرهم.
• • •
كانت القرون الممتدة بين القرن السادس عشر وبدايات القرن العشرين هى قرون الصعود الأوروبى والغربى. كانت هى قرون الترويج المستمر «للنموذج الغربى» المستند إلى البناء الرأسمالى والتطور التكنولوجى والقوة العسكرية والتنظيم البيروقراطى للدولة والمجتمع كالنموذج الوحيد الممكن للتحضر والتمدن والتقدم. كانت هى قرون «عبء الرجل الأبيض» الذى استباح أراضى الشعوب خارج أوروبا وأباد السكان الأصليين أو استعبدهم واستوطن المناطق التى اعتبرها مناسبة لحياته (من جنوب أفريقيا والجزائر إلى الأمريكيتين وأستراليا ونيوزيلندا وغيرها) وتكالب على استعمار ونهب البقية.
فعل «الرجل الأبيض» كل ذلك، وكثير من ضباط جيوشه وبحارته وموظفى حكوماته والملتحقين بإداراته الاستيطانية والاستعمارية من علماء ومدرسين ومهندسين وأطباء ورجال دين على قناعة كاملة بكونهم يحملون مشاعل الحضارة والمدنية إلى من تخلفوا عن الركب وبكون واجبهم المقدس يشرعن استخدام السلاح والعنف والتورط فى الاستيطان والاستعمار والإبادة باسم التقدم المنشود.
لم تهتز ثقة الشعوب الأوروبية وامتداداتها الطبيعية فى العالم الجديد إن فى سمو نموذجهم أو فى حتمية تعميمه قسرا على بقية شعوب الأرض إلا حين زج التنافس بين القوى الكبرى بالقارة العجوز وبالعالم خارجها إلى أتون حرب وحشية ومدمرة بين ١٩١٤ و١٩١٨ شهدت من الفظائع والجرائم ما كان «المتحضرون» الأوروبيون، وهم فى المجمل إما لم يكونوا على دراية كبيرة بما يحدث فى المستعمرات خارج أوروبا من إبادة واستعباد ونهب أو كانوا من المخلصين لنظرية «عبء الرجل الأبيض» العنصرية، ليعتقدوا أنها سترتكب على أراضيهم.
كان من المستحيل أن تمر مشاهد القتل الوحشى للجنود القابعين فى الخنادق باستخدام الغازات الكيماوية السامة ووقائع دمار المدن والقرى الواقعة فى ساحات المعارك فى غرب أوروبا ووسطها وشرقها وجنوبها وتفاصيل إغراق الغواصات لسفن ركاب مدنية ولسفن تجارية، كان من المستحيل أن يمر كل ذلك دون أن يتساءل على الأقل بعض العلماء والمفكرين والفلاسفة والسياسيين، بل ورجال الدين، عن الأسباب الحقيقية لتواصل حروب الأوروبيين ولوحشيتهم وعنفهم المنفلت من كل قيد أخلاقى أو دينى.
وحين امتد الأمر عقب نهاية الحرب العالمية الأولى إلى مؤتمرات للسلام مارس فيها الأوروبيون «عدالة المنتصر» التى صارت انتقاما شاملا من المنهزمين (ما فرضته معاهدة فرساى ١٩١٩ على ألمانيا مثالا)، وتنصلوا فى سياقاتها من مبادئ حق تقرير المصير للمستعمرات التى وعدها الأوروبيون المنتصرون بالاستقلال وأرهقوا شعوبها بأعباء الحرب والقتال نظير الوعد، بات واضحا أن تناقضات الأوروبيين هى التى تحول دون انتصار الحضارة والمدنية والتقدم داخل القارة العجوز وخارجها.
• • •
استمرت ذات التناقضات بين الحربين، صراعات وانهيارات واقتطاعات من أراضى الغير وحروب أهلية هنا واكتشافات علمية وابتكارات تكنولوجية هناك، هنا مئات الآلاف من المصابين والمحطمين جسمانيا ونفسيا والجوعى من جراء الحروب والأسلحة الفتاكة والأزمات الاقتصادية وهناك أمصال ولقاحات تسيطر على الأوبئة وملايين المفتونين بالابتكارات الحديثة والفنون العصرية كالسينما ووسائل الإعلام الجديدة مثل نشرات الأخبار المصورة التى كانت تعرض فى دور السينما والمسارح وصحافة الرأى التى ذاع صيتها بين الحربين.
تصاعدت أصوات التفكير النقدى فى أوروبا فى عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، وتبلورت مدارس فلسفية جديدة أعادت النظر فى أسس النموذج الغربى لتحديد الفاسد منها (البناء الرأسمالى أم القوة العسكرية أم النزوع الاستعمارى أم التطور العلمى المتحرر من كل قيد أخلاقى) والبحث فى سبل تجاوزه.
وبرزت فى هذا السياق كتابات الفيلسوف الألمانى أوسفالد شبنجلر (١٨٨٠ ــ ١٩٣٦)، خاصة مؤلفه المعنون «أفول الغرب» (Der Untergang des Abendlandes) ومؤلفه المعنون «الإنسان والتكنولوجيا» (Der Mensch und die Technik). وبالمؤلفين يطرح شبنجلر قراءة نقدية للنموذج الغربى، كما تبدى إبان الحرب العالمية الأولى وبين الحربين، تراه مجردا من القيم الإنسانية العليا ومدفوعا بالرغبة فى مراكمة الثروة وتعظيم المتع المادية وإطلاق قوى التقدم العلمى والصناعى والتكنولوجى والعسكرى متفلتة من كل قيود المساواة والعدل والكرامة الإنسانية. وعندما سيطرت النازية على ألمانيا فى ١٩٣٣ وشرعت فى الترجمة السياسية لأيديولوجيتها العنصرية، كتب شبنجلر معتبرا انتشار الأفكار العنصرية بمثابة المسمار الإضافى فى نعش النموذج الغربى ودليلا على «انحطاط أوروبا» الذى رادف بينه وبين انفصال تقدم المجتمعات الغربية عن قيم المساواة والعدل والكرامة التى ينبغى أن توجهه وتصيغ مساراته.
برزت أيضا فى ذات الفترة، عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، مدارس فكرية أوروبية سعت إلى البحث فى الأسس المعرفية والفلسفية والفكرية للحضارات القديمة فى آسيا والشرق الأوسط ومناطق أخرى وتوظيفها إما لتجاوز النموذج الغربى أو لتصويبه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved