جهاز علاج الفيروسات بين العلم والسياسة

علاء عوض
علاء عوض

آخر تحديث: الإثنين 3 مارس 2014 - 10:20 ص بتوقيت القاهرة

فى حياتى المهنية التى امتدت أكثر من ثلاثين عاما قضيت معظمها فى الاشتباك مع فيروس سى وأمراض الكبد، كان هناك العديد من الدعاوى باكتشاف أدوية وتقنيات علاجية متعددة لهذا المرض بنسب نجاح تفوق الخيال، وبعض من هذه الدعاوى ارتدى رداء العلم والآخر ارتدى رداء الدين، ولكن الواقع أثبت بعد ذلك فشلها جميعا. والواقع أن حالة العجز، التى يعانى منها المجتمع العلمى الدولى، عن انجاز علاج آمن وفعال بنسبة شفاء 100% من هذا المرض هى التى سمحت لمثل تلك الفقاعات العلاجية أن تنتفخ لبعض الوقت، قبل أن تنفجر فى الهواء. غير أن كل تلك الدعاوى كانت دائما صادرة من مجموعة قليلة من الأفراد لا تعبر إلا عن ذواتها، وهو أمر ربما يكون مفهوما ومتواجدا بمساحات مختلفة فى جميع أنحاء العالم. الا أن الأمر لابد أن يكون مختلفا تماما اذا ما صدر عن مؤسسة مهمة، وربما كانت الأهم فى الوقت الراهن، فى الدولة.

•••

كان المؤتمر الصحفى للهيئة الهندسية للقوات المسلحة يحمل خبرين متوازيين، الأول هو التوصل لاكتشاف جهاز للتشخيص السريع لفيروس الالتهاب الكبدى سى من خلال تطوير أحد أجهزة الكشف عن المفرقعات. والواقع أننى تعرفت على هذا الجهاز عام 2010 حين عرض فى مؤتمر باليابان، ثم حين عرض فى مؤتمرات أخرى عامى 2012 و2013، ثم حين تم نشر هذا البحث فى أحد الدوريات الرقمية على الإنترنت. وبالرغم من ضعف هذه الدورية على مستوى الأثر العلمى، فإن ذلك لا ينفى أن هناك فكرة بحثية قد تم اختبارها بالفعل. ربما كانت نتائج هذا البحث بحاجة إلى الاعتماد من خلال دراسات أوسع وبحوث مقارنة، وربما كان للبعض تحفظاته حول الأساس العلمى للبحث الذى لا يبدو واضحا، وحول التعجل فى اعلان النتائج، ولكن فى النهاية تلك التحفظات التى لها وجاهتها لا تنكر وجود هذه الدراسة.

الا أن الخطير فى هذا المؤتمر هو الاعلان عن ابتكار جهاز يستطيع تحقيق معدلات شفاء من فيروس سى تتجاوز 90%، وأنه أيضا يستطيع شفاء مرضى الايدز وانفلونزا الخنازير. كانت المفاجأة الكبرى أن يعلم أساتذة الكبد وباحثيه فى مصر هذا الخبر من خلال أجهزة التليفزيون والصحف ومن خلال مؤتمر صحفى غاب عنه الأطباء بالرغم من أنه يعرض اختراعا علاجيا. حمل هذا المؤتمر الصحفى العديد من الانتهاكات لأدوات ومناهج البحث العلمى إلى الدرجة التى تخرجه تماما من هذا السياق. اعتمد المؤتمر على فكرة غريبة وهى سرية الأبحاث بما يتفق مع مقتضيات الأمن القومى، فكيف تتفق السرية مع الاعلان عن النتائج فى مؤتمر صحفى. أفهم أن السرية مكانها المعامل المغلقة التى تسعى لتطوير الأبحاث والتكنولوجيا، ولكن الاعلان الصحفى ــ وليس العلمى ــ يعنى بالضرورة الخروج من مراحل السرية إلى دوائر العلنية، والاتجاه إلى التطبيق العملى للاختراع وتسويقه. وقد أعلن السادة اللواءات أنهم تقدموا للجنة أخلاقيات البحث بوزارة الصحة بالنتائج لاعتمادها، وهو أمر مثير للدهشة والأسى معا، فمن البديهى أن اجراء أى دراسة على البشر (وأيضا على حيوانات التجارب) يتطلب الحصول على موافقة من لجان الأخلاقيات، التى تستطيع من خلال المعايير العالمية أن تقرر مدى سلامة هذه الدراسة على صحة الانسان ومدى المخاطر المتوقعة منها، فلماذا تم تأجيل هذه الموافقة إلى ما بعد اجراء الدراسة الإكلينيكية؟ هذا سؤال موجه إلى وزارة الصحة التى من المفترض أنها الراعية لصحة المصريين.

•••

تعلمنا عبر عقود أن عرض نتائج أى دراسة يتضمن شرحا للأساس العلمى للفرضية، ثم عرضا لتصميم الدراسة من حيث قواعد اختيار العينة وأدوات الدراسة والاختبارات الاحصائية المستخدمة لتحليل النتائج وعرض الاستنتاجات العلمية؛ من البحث والتوصيات المستقبلية لاستكماله وتطويره. لكننا لم نر فى العرض المقدم من الهيئة الهندسية فى مؤتمرها الصحفى أى من هذه العناصر. كل ما رأيناه كان عرضا لبعض الصور وبعض اللقاءات مع المرضى وتعليقات للأطباء الذين قال أحدهم إن مرضى القلب قد استفادوا أيضا من الجهاز ولم يعودوا بحاجة للأدوية. تعلمنا أيضا أن تقييم أى علاج مستحدث يستهدف بالأساس قياس درجة فاعليته وأمانه، وأن ذلك يمر عبر أربع مراحل أولاها تتم على حيوانات التجارب ثم على المتطوعين الأصحاء لقياس الأمان ثم على المتطوعين المرضى وأخيرا التجارب الإكلينيكية العلاجية على المرضى، وأن الاستمرار فى أى مرحلة من هذه المراحل مرتبط بدراسة وتقييم نتائج المراحل السابقة. فهل مر هذا الجهاز السحرى عبر هذه المراحل، وهل تم اثبات هذه النتائج ونشرها فى الأوساط العلمية من خلال المؤتمرات والدوريات، وهل يجوز القفز على هذه المراحل والبدء فى التجربة الاكلينيكية مباشرة حتى من دون الحصول على موافقة من لجان الأخلاقيات.

•••

فى الحقيقة أنا غير معنى فى هذا المقال بمناقشة هذا الجهاز، لأننى ببساطة، أنا والغالبية العظمى من زملائى، لا نعلم عنه شيئا، وكل معلوماتنا استقيناها من وسائل الاعلام التى صرحت بأن سر هذا الاختراع يوازى سر بناء الأهرام. ولكننى معنى بالأساس بالدفاع عما أعرفه جيدا، وهو مناهج البحث العلمى وأدواته ومعايير النشر العلمى. ولم تكن العبارات التى وردت فى المؤتمر ــ مثل الحديث عن الكفتة ــ هى مصدر استفزازى بقدر ما كان اهدار كل قيم وتقاليد البحث العلمى. والواقع ان هناك سؤالا ملحا بحاجة إلى اجابة واضحة حول هذا المؤتمر، وهو من هو الجمهور الذى استهدفه. هل كان يخاطب الأطباء والباحثين، وبالرغم من اتهامات التشكيك والخيانة، فإننى لا أتصور أننا نستطيع أن نصدق ما قاله القادة المهندسون العسكريون من تصريحات، ولكننا نصدق فقط نتائج التجارب العلمية التى تلتزم بمعايير البحث والنشر والتى تثبت صحتها عبر سلسلة من الدراسات والبحوث المقارنة، وهذا ما لم يقدم فى المؤتمر بأى قدر مهما كان ضئيلا. أم أن المؤتمر كان يخاطب الرأى العام ويوجه رسالة غير دقيقة لملايين المرضى، وهل كان ذلك الخطاب ذا محتوى سياسى فى رداء العلم. وهل يمكن للعلاقة بين العلم والسياسة أن تصل إلى هذه الدرجة من الخلط والاندماج، التى تتجاهل أى استقلالية للبحث العلمى وتجعله أداة لخدمة السياسة بشكل شديد الفجاجة. ملايين المرضى التى تحلم الآن بأوسع الآمال فى الشفاء من مرض يهدد حياتها ولا تستطيع غالبيتها الساحقة من الفقراء تحمل النفقات الباهظة للأدوية المتاحة لعلاجها، كيف يمكننا أن نتصور رد فعلها اذا ما اكتشفت أن آمالها تتبدد على أرض الواقع، وأن المستقبل لم يثبت نجاح هذه التقنية العلاجية. أليست هذه الفرضية واردة حتى بالنسبة لأكثر المتحمسين للجهاز.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved