طريقتان للتعامل مع حكم المحكمة الدستورية

زياد بهاء الدين
زياد بهاء الدين

آخر تحديث: الثلاثاء 3 مارس 2015 - 12:05 م بتوقيت القاهرة

هناك طريقتان للنظر إلى الحكم الصادر أمس الأول (الأحد) من المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية المادة الثالثة من قانون تقسيم الدوائر الانتخابية، الأمر الذى يترتب عليه ضرورة تعديل القانون ثم وضع جدول زمنى جديد لإجراء الانتخابات البرلمانية التى كانت على الأبواب.

الطريقة الأولى هى اعتبار ما حدث مجرد خطأ فنى بسيط يمكن تداركه عن طريق تشكيل لجنة وتعديل مادتين أو ثلاث فى القانون وإعادة ترتيب بعض إجراءات ومواعيد الانتخابات. ووفقا لهذه الطريقة فإن الموضوع بسيط ولا يستحق التوتر ولا التشنج لأن كل ما يترتب عليه هو تأخير قد لا يتجاوز شهرين أو ثلاثة، وهى ليست مدة مؤثرة بالنظر إلى أن الانتخابات البرلمانية قد تجاوزت الموعد المقرر لها دستوريا بالفعل بما يزيد على السنة، وبالتالى فلن يضار أحد لو زاد على السنة شهران أو أكثر. وعلى أى حال فإن البرلمان ليس أخطر قضية على الساحة فى ضوء التحديات الاقتصادية والأمنية التى تواجه مصر، كما أن عملية التشريع لم تتوقف خلال الفترة الماضية فى ظل ما يتمتع به رئيس الجمهورية من صلاحية اصدار القوانين اثناء غياب البرلمان. هذه هى الطريقة الأولى فى التعامل مع حكم الدستورية، وأتصور أن القريبين من دوائر السلطة سوف يطرحونها خلال الأيام القادمة للتقليل من خطورة الموضوع وتصويره كما لو كان مجرد اختلاف فى وجهات النظر القانونية وعقبة إجرائية يمكن تصحيحها بسهولة.
أما الطريقة الثانية فهى أن نتوقف قليلا عند مغزى ما حدث وندرك أنه يعبر عن خلل بالغ فى الأسلوب الذى تسير به عملية التشريع فى مصر، ونتعامل مع الأمر بقدر من الجدية وكذلك من التواضع الذى يسمح بالاعتراف بالأخطاء والتعلم منها. هناك أسئلة يلزم الإجابة عليها: لماذا صدر القانون بهذا الشكل المعيب أصلا؟ ومن المسؤول عنه؟ ولماذا لم تستجب الدولة لعشرات الآراء والندوات والمقالات من خبراء قانونيين وفقهاء دستوريين طالبت كلها بإعادة النظر فى النظام الانتخابى برمته؟ والأمر لا يتوقف عند هذا القانون وحده، بل إنها سيرة مستمرة منذ ثورة يناير حتى الآن، مناقشات واجتماعات ومحاولات جادة لرسم مسار سياسى سليم بمشاركة القوى الحزبية والأهلية، ولكن تصطدم فى كل مرة بإعلانات دستورية وقوانين لا أحد يعلم مصدرها ولا من المسؤول عنها واذا بها تتحول إلى قضاء وقدر لا يملك أحد تغييره بينما البدائل كلها كانت متاحة أصلا. اذا قامت شركة عامة او خاصة ببناء كوبرى او طريق وانهار بعد قليل فلابد ان تكون هناك محاسبة وعقاب، فما بالنا بالمسؤولين عن تعطيل الحياة السياسية فى مصر وعن هذا التخبط الشريعى غير المسبوق. ألا يلزم على الأقل تحديد ما يجعل مصر، دون كل دول العالم، غير قادرة على تنظيم انتخابات برلمانية طبيعية؟
هذا التخبط التشريعى المستمر له، فى تقديرى الخاص، أسباب محددة ولكن قلما يتم التطرق إليها.
السبب الأول هو التوسع فى صلاحية التشريع الاستثنائية التى منحها الدستور لرئيس الجمهورية بينما الأصل أنها للأمور الضرورية فقط. ولنعد إلى الوراء قليلا ونتذكر أنه منذ ثورة يناير وحتى الآن، أى خلال خمسين شهرا تقريبا، لم يكن فى مصر برلمان إلا لمدة سبعة أشهر فقط. أما خلال الثلاثة وأربعين شهرا الأخرى، فقد عاشت مصر فى ظل حالة التشريع الاستثنائية، عشرة أشهر منها كانت فى يد المجلس العسكرى، وسنة كاملة مع الرئيس الأسبق محمد مرسى، ونحو ثمانية أشهر مع الرئيس السابق عدلى منصور، أما الباقى فمنذ انتخاب الرئيس عبدالفتاح السيسى حتى الآن. وبينما أن هذه الصلاحية ضرورية وبدونها يسقط البلد فى حالة فراغ تشريعى، إلا أن ما حدث أننا نسينا أنها سلطة استثنائية، لا تستخدم إلا للضرورة، وفيما يكون محل اتفاق عام فى المجتمع، وبشرط أن يسبقها تشاور مع أصحاب الخبرة فى موضوع التشريع، وتحولت إلى القاعدة الأصلية، بل وإلى فرصة للانتهاء من أكبر قدر ممكن من القوانين الخلافية قبل انتخاب البرلمان.
أما السبب الثانى فهو أن هناك غموضا وتضاربا واضحا بشأن من يقوم بإعداد وصياغة القوانين التى تعرض على رئيس الجمهورية. هناك وزارة للعدل وبها إدارة تشريع ذات تاريخ عريق وتراث حافل. وهناك مجلس الدولة المختص أساسا بهذا الموضوع وفيه أيضا مدرسة عريقة تمتد إلى عصر السنهورى. وفى البلد كليات للحقوق واساتذة يشاركون فى كتابة قوانين العالم العربى كله. ولأن التشريع ليس مجرد صياغة مواد وحسب بل فيه جوانب فنية لها خبراء ومتخصصون، فإن المنطقى ان تتم الاستعانة بمئات الجمعيات والمنظمات والنقابات واتحادات الصناعات والأحزاب وغيرها، كل فى مجاله. ولكن الواقع أن كل هذا البناء المجتمعى الهائل يتم تجاهله ولا أحد يعلم من المسؤول عن التشريع بالضبط والقوانين تعدها لجان غير معلوم تكوينها ولا صلاحياتها ولا خبراتها. غياب جهة واحدة رسمية مسؤولة ليس فقط عن صياغة مواد القوانين وإنما عن التخطيط للبرنامج التشريعى وتنفيذه وتحديد أولوياته وضع بحاجة للتصحيح.
وأخيرا فإن السبب الثالث أن الصراع السياسى فى مصر قد طغى على كل شىء، بما فى ذلك عملية التشريع التى صارت هى الأخرى خاضعة لذات "التسييس". ولذلك فبينما يفترض أن يكون التشريع معبرا عن توجهات اقتصادية واجتماعية للدولة على نحو ما يتوافق عليها المجتمع، فإن آليات التشريع الراهنة وما يكتنفها من غموض تعبر ليس عن جدل وصراع بين الأفكار والرؤى الاجتماعية المختلفة، بل عن الصراع السياسى بين أطراف داخل الدولة وخارجها، يسعى فيها كل طرف لفرض رأيه وملء الفراغ سريعا وتثبيت مصالحه من خلال الآليات التشريعية.
ونعود إلى حكم الدستورية. فكما أن هناك طريقتين للنظر إلى الحكم وتقدير عواقبه، فإن هناك أيضا منهجين فى التعامل معه. يمكننا الاكتفاء بتشكيل لجنة وتعديل العيب الدستورى فى القانون واستكمال الانتخابات كما كانت ولكن بتأخير بسيط. ويمكننا أن نتوقف ونعيد النظر فى الخلل البالغ فى آليات التشريع بحيث لا تصدر إلا القوانين الضرورية وغير الخلافية لحين انتخاب برلمان جديد، وتتم الاستعانة بالجهات المختصة عن التشريع وصاحبة الخبرة التراكمية، وتنفصل فيه عملية التشريع عن الصراع السياسى الدائر فى البلد بين أصحاب المصالح المختلفة داخل الدولة. وإذا كان هناك من يهمهم حقيقة الحفاظ على هيبة الدولة واستقرار مؤسساتها، فعليهم أن يعتبروا أن هذه الفوضى التشريعية هى أكثر ما يضر بهيبة الدولة ويفقدها المصداقية ويزرع الشك فى مؤسساتها القانونية.

فأى الطريقين نختار ؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved