الجهاد الأكبر

امال قرامى
امال قرامى

آخر تحديث: الثلاثاء 3 مارس 2015 - 1:20 م بتوقيت القاهرة

تستمرّ الاحتجاجات منذ أسابيع فى قطاعات شتى: التعليم، وخدمات البريد، وعمال المصانع.. ويبرّر المسئولون عدم استجابتهم للمطالب «الشعبية» بأنّ الحكومة لاتزال فى بداية مباشرتها للعمل، وأنّ الوزراء بصدد الاطلاع على ملفات عديدة ومحاولة التفاعل مع «تركة» خلفتها الحكومات السابقة. وتتخذ هذه الاحتجاجات طابعين: فمنها ما يندرج فى إطار منظّم ومهيكل تابع للنقابات العمّالية، ومنها أيضا ما يُعدّ تحركات هى أقرب إلى ردّ الفعل الفورى القائم على مقولة فرض المطالب بالقوة، وعدم الخضوع للنظام، وتجاوز سلطة القانون، وهو ما يجرى على مقربة من الحدود الليبية من غلق للمعابر. ولا يخفى ما لهذه الاحتجاجات من صلة بالتجارة الموازية التى هيمنت على المجال الاقتصادى منذ اندلاع الثورة، مؤدية إلى اختلال الموازين، وظهور فئة «الفتوّات» التى فرضت نفسها اجتماعيا واقتصاديا مُنتزعة موقعا فى البنية الاجتماعية الجديدة، وذلك من خلال تحّكمها فى السوق. فهى تتاجر فى كلّ شىء: العملة الصعبة، والسلاح، والسجائر، والمخدرات، ومختلف السلع، وتفرض قوانينها على الجميع بل إنّ بعض الجموع باتت تطلب وساطتها، وتلوذ بها طالبة حمايتها.

وما من شكّ فى أنّ المواجهات الحاصلة بين هذه الفئات التى أفادت من الفوضى التى حلّت بعد الثورة، والعناصر الأمنية تشير بما لا يدع مجالا للشكّ، إلى التحديات التى تواجه الحكومة الجديدة. فإلى أى مدى ستنجح الحكومة فى تطبيق منوال اقتصادى قادر على تحقيق العدالة الاجتماعية؟ وهل بإمكان هذه الحكومة الفتية أن تفرض امتثال الجميع لسلطة القانون؟ وكيف ستواجه الحكومة الاحتجاجات التى ستعرقل سير عملها إن تواصلت على هذا النسق، وتدخّلت فيها «أطراف» سياسية تجد «متعة» فى إحداث هذا الإرباك؟

•••

وبالرغم من تصريحات محافظ البنك المركزى بعجز الميزان التجارى واختلال الاقتصاد وتقلّص الموارد بل عجز الحكومة عن تغطية كلّ النفقات فإنّ «المطلبية» باتت سمة ملازمة لسلوك أغلب التونسيين، وهو أمر ينمّ عن فجوة حاصلة فى أذهان الكثيرين بين الواقع والمنشود. كما أنّ للأمر صلة بتصوّر قديم فى نظام الحكم يجعل الحكومة بمثابة الأب الراعى الذى تصوّب نحوه جميع الآمال، ويرتقب منه أن يكون العوّال، والضامن الوحيد للقمة العيش.

ولئن اضطلع المجتمع المدنى بدور مهم فى مختلف المراحل الانتقالية إلاّ أنّه لم يستطع فى الغالب، تغيير هذه العقلية التواكلية التى تكشف عن لامبالاة بمجموعة من القيم لعلّ أهمّها العمل، والتضامن، والتطوّع، وخدمة الوطن فى مقابل العويل والشكوى والصراخ والبكاء والتركيز على عرض الذات فى صورة الضحيّة أمام مختلف وسائل الإعلام، والتوجّه برسائل الاستغاثة إلى رئيس الدولة. وليس يخفى أنّ هذا السلوك، وإن كان مبرّرا، يتعارض مع قيمة هامّة من قيم الثورة، ونعنى بذلك الكرامة. إنّ مظاهر البؤس والخصاصة التى باتت مرئية بعد الثورة بفضل الدور الذى ينهض به الإعلام تكشف النقاب عن حجم الفقر والتهميش والخصاصة من جهة، والتحوّلات الاجتماعية الحاصلة على مستوى التركيبة الطبقية، والتى تهدّد باضمحلال الطبقة الوسطى، من جهة أخرى. بيد أنّ إدراك الواقع فى حيثياته المختلفة لا يمكن أن يفضى إلى انسياق وراء «استمتاع الضحية» بسردية عرض الذات والاستمرار فى الاحتجاج لاسيما أنّ تضخم المطلبية أفقد الحركات الاحتجاجية معناها وقلّص عدد المتعاطفين معها والمساندين لها.

•••

إنّ توزيع الثروات بما يضمن العدالة الاجتماعية لا يمكن أن يتم فى سنة بل يتطلّب صياغة سياسيات مركبّة وشمولية على المدى الطويل كما أنّ الخروج من الأزمات يقتضى إدراك المواطن واجباته، والالتزام الجدى بالقيام بها قبل المطالبة بحقوقه. وليس يخفى أنّ العمل التطوّعى لا يقتصر على حزب دون آخر، ولا على جمعيّة خيريّة دون مختلف الجمعيات المنضوية تحت المجتمع المدنى. ولعلّنا لا نبالغ إن اعتبرنا أنّ النهوض بالبلاد يقتضى تغيير بؤرة التحديق، والمناظير إذ لا يجب على المواطنين أن يكونوا عوالين على الدولة وكأنّهم لم يبلغوا الرشد ولم ينهضوا لتقرير مصيرهم وفرض الديمقراطية التشاركية.

ما أحوجنا اليوم إلى إعادة الاعتبار إلى قيمة العمل فهو الجهاد الأكبر، والحقيقى على حدّ تعبير الزعيم الراحل «بورقيبة».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved