عن أستاذنا الراحل «محمود عبدالفضيل»

محمد يوسف
محمد يوسف

آخر تحديث: الجمعة 3 مارس 2017 - 10:10 م بتوقيت القاهرة

حينما انتهت تلميذة «اللورد كينز» النجيبة وعالمة الاقتصاد الشهيرة «جوان روبنسون» من إعداد إحدى دراساتها المشتركة حول أساسيات علم الاقتصاد، وتحديدا كتابها الشهير المعنون «مقدمة فى علم الاقتصاد الحديث» فى العام 1974، بعثت فى صدر ذلك الكتاب برسالة شكر وتقدير للذين ساعدوها على تنقيح وتدقيق وإثراء محتوياته، وكان الباحث النابه فى قسم الاقتصاد التطبيقى بجامعة كمبريدج «محمود عبدالفضيل» على رأس هؤلاء.

لم تكن هذه هى بداية نبوغ أستاذى، فلقد ظهر نبوغه مبكرا بعدما حصل على البكالوريوس من كلية التجارة جامعة القاهرة فى العام 1962، ليلتحق بعدها الطالب محمود عبدالفضيل ببرنامج دكتوراه الدولة فى العلوم الاقتصادية بجامعة السوربون العريقة بباريس. وبعدما حصل على الدكتوراه من نفس الجامعة فى العام 1972 انتقل للعمل فى جامعة كمبريدج بإنجلترا واشترك فى تأسيس مجلتها العلمية الشهيرة للاقتصاد كما اشترك فى مجلس تحريرها.

***
بطموح يلامس عنان السماء، دشن الدكتور عبدالفضيل بعد عودته للوطن العربى مشروعه العلمى الرائد، معتمدا فيه على أربعة ركائز أساسية:

أولها انحيازه التام للمنهج العملى، فعبر العشرات من الكتب والدراسات والمقالات العلمية حول الاقتصاد والمجتمع فى مصر والعالم العربى، تجده قد خط لنفسه منهجا علميا رصينا، تمكن به من إبداء آرائه الصائبة حول مسببات ونتائج مشكلاتنا الاقتصادية. ولم يُنسه التحيز التام للمنهج العلمى أنه كأحد أبناء العالم الثالث مُطالب بأن يكون جسرا فكريا لنقل وتطويع النظريات الاقتصادية الغربية لكى تتلاءم مع طبيعة مشكلات هذا العالم. ذلك أن كتاباته مليئة بموضوعات ثرية تدافع عن قضايا هذا العالم العادلة، ومليئة أيضا بتوصيات قيمة حول طرق كسر حلقات التخلف للانطلاق صُعدا فى آفاق التنمية الاقتصادية.

ثانيها انحيازه المشهور لطلبة العلم، واستمع، إن شئت، لمئات القصص التى يرويها طلبته فى كلية الاقتصاد بجامعة القاهرة عن تفانيه فى محاضراته ولقاءاته العلمية لإيصال المعلومات لهم، فضلا عن تواضعه الجم فى تعاملاته معهم. لن تستغرب مثلا حين يحكى أحدهم عنه أنه كان لا يجد حرجا، وهو القامة العلمية الكبيرة، فى النزول لمستوى تفكير طالب مازال فى مرحلة البكالوريوس، ليساعده على استيعاب تعقيدات علم الاقتصاد. ولن تستغرب كذلك حين تعلم أنه رغم انشغاله بالعديد من الوظائف الاستشارية المصرية والعربية والدولية، التى تقلدها خلال عمره الحافل، كان حريصا على البقاء أطول فترة ممكنه فى محراب العلم بين الطلبة والباحثين، ليتيح لهم فرصة كافية لينهلوا من علمه الواسع.

ثالثها انحيازه الواضح للعروبة، فدراساته الرائدة عن التكامل الاقتصادى والوحدة العربية، وأثر التباين الشديد فى مستويات الدخول بين الدول العربية النفطية وغير النفطية، تشهد بأنه كان من أوائل من دافع عن فكرة التكامل الاقتصادى العربى، وتشهد كذلك بأنه أول من حذر من خطورة ظاهرة «لعنة الموارد» التى أصابت هذا التكامل فى مقتل.

رابعها انحيازه الكبير للفقراء، فمواقفه الفكرية التى سجلها فى كُتبه ومقالاته للدفاع عن هؤلاء الفقراء أكثر من أن تحصى. ويكفى القول فى هذا الخصوص إن مقالاته فى كبريات الصحف ودور النشر كان محورها الدفاع عن التنمية الاقتصادية التى تراعى الأبعاد الاجتماعية، كما أنها تضع نصب عينيها حقوق الفقراء فى تلك التنمية. كان الدكتور عبدالفضيل يُحذر دائما من أن آلية «السوق المحررة» و«الرأسمالية المنفلتة» فى الدول النامية لن تُقيل التنمية الاقتصادية من عثراتها الكثيرة، وستوسع الفجوة بين طبقات المجتمع، وستزيد، من ثم، من الغُبن الاجتماعى. وها هى أغلب الدول النامية تعانى فى وضعها الراهن مما حذر منه أستاذى الراحل.

***
إن رحلة عطاء العالم الفذ الدكتور عبدالفضيل التى امتدت بين مولده فى العام 1941 ورحيله عن عالمنا مؤخرا، لم تظهر نبوغه وتفوقه العلمى، للدرجة التى جعلته إحدى القامات الكبرى فى علم الاقتصاد فى الوطن العربى فحسب، ولكنها أظهرت جوانب إنسانية فريدة فى شخصيته الفذة، ليجمع بذلك بين الحسنيين، وليظل اسمه إلهاما لكل من يريد السير على درب النبوغ والتفوق.

يبقى أن أبعث برساله تعزية لأسرة ومحبى وطلبة أستاذى الراحل عبر جريدة الشروق الغراء، والتى كانت احدى النوافذ الهامة التى يحرص على مخاطبتهم منها، أقول فيها: إنه وإن كان قد رحل الدكتور عبدالفضيل عن عالمنا إلى جوار ربه، فإن علمه الذى تركه سيظل مُخلدا لاسمه فى ذاكرة مدرسة الاقتصاد العربية.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved