إشارات برتقالية متقطعة

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 3 مارس 2019 - 12:10 ص بتوقيت القاهرة

صار اللون البرتقالي يثير في نفسي التشاؤم، فلم يعد مقترنا لدي بالشمس أو الفاكهة الشتوية الغضة، بل بإشارة المرور المعطلة التي يبطلها العسكري وقت الذروة، لكي يتحكم في سير وتوقيف السيارات كيفما بدا له.
ترى العربات وقد تكدست، فتفهم على الفور أن هنالك من قرر استخدام سلطاته، وهو على يقين تام أن الإشارات الأوتوماتيكية المزودة بكاميرات غير مجدية في الحالة المصرية، وعند مناقشته تجده مقتنعا أنه يعمل للصالح العام، وأن القاهرة العامرة ليس كمثلها شيء، ولا ينفع معها ما هو مطبق حول العالم، فنحن في نظر البعض نعيش دائما في الاستثناء. أما البعض الآخر فقد أتته الأوامر من أمين الشرطة الذي يتصل بزملائه عبر اللاسلكي، وبالتالي يعرف أماكن السدد ويمتلك صورة أشمل، والعسكري لا يفهم سببا للون البرتقالي، لكن ينفذ.. يقف مغروسا بين السيارات، تلمحه بالكاد، ولولا سترته الفسفورية، لكان ربما في خبر كان، قصير القامة غالبا، ضعيف البنيان، لا يعرف أين موقعه بالنسبة لبقية شوارع العاصمة التي وصل إليها قبل أيام. هو نفسه مصاب بالزعر والرعب، من عدد المركبات القاهرية التي يصل عددها إلى حوالي 4 مليون مركبة، وفقا للإحصاءات الرسمية لسنة 2018، في مقابل 12 مليون سيارة مرخصة داخل نطاق المحافظات، منها 7 مليون سيارة ملاكي، بزيادة سنوية 750 ألف سيارة.
***
العسكري القادم لتوه من القرية يحتاج بالطبع "لطاسة خضة" نحاسية، مطلية بالقصدير، كتلك التي كانت تستعملها جدته، يملؤها بالماء ويشرب منها، ويقرأ التعاويذ قليلا، لكي يزول تأثير الرعب، ويتخلص من الهم والغم، خاصة عندما تنهال عليه توبيخات السائقين الذين فرغ صبرهم، أما ألطفهم فيقنع بالابتسام المستهزئ، وعيناه تصرخان "لا حول ولا قوة إلا بالله"!
تشق طريقك بين السيارات والحافلات والتوك توك والدراجات البخارية وأحيانا عربات الحانطور، وتتفادى رأس الحصان بأعجوبة كي لا تصيبه بسوء، وتقطع الجسر وأنت تحلم بالنزول إلى الشارع الذي تريد، فإذا بعسكري آخر يشير إلى إغلاق هذا المخرج تحديدا، وتحويل الطريق لظروف قهرية. تتساءل لماذا لم يتم الإشارة إلى ذلك، قبل الصعود إلى الجسر، بوضع لافتة بسيطة لا تكلف أحدهم شيئا، وتنتابك في مثل هذه اللحظات العصيبة رغبة عميقة في الخلاص من العالم، مع نمو حقد دفين تجاه عسكري المرور الذي لا يملك ناقة ولا جمل، بل يبدو تائها وسط شعب من التائهين.
***
خرجت من البيت، قبل ساعات، مرح العينين والخطى، وإذا بك شاحب الوجه، زائغ النظرات. خرجت من البيت وأنت حليق الذقن، مسرح الشعر، في جيبك مفتاح البيت والمكتب، تعرف ماذا تريد، ومع ذلك لا تصل إلى أي شيء. الإشارة برتقالية، وأحد المسؤولين يمر من هنا، والجسر قد تم تحويل مخرجه بسبب هدم الأبنية القديمة التي ستحل مكانها أبراجا شاهقة.. وعلى بعد خطوات، أمين شرطة يوقف السيارات في عرض الطريق لكي يتحقق من التراخيص. لا تفهم لماذا اختار هذا الموقع بالذات للكمين، وهو سيتسبب بالضرورة في اختناق مروري إضافي، وتتمنى في سرك أن يختفي كل هؤلاء في غمضة عين. تشاهد عن بعد اللون البرتقالي المتقطع للمزيد من الإشارات المعطلة عن قصد، وتقول ليس من الضروري أن تشاهد فيلم رعب قبل النوم، كي تنتابك الكوابيس، ويطبق عليك الخوف، فأحيانا يكون تأثير الإشارات البرتقالية المتقطعة أقوى وأصعب. تشعر أنك وقعت في فخ نصبه لك بعض الأغبياء أو أصحاب القدرات المحدودة والتعليم الذي يسبب أعطال مزمنة في الدماغ.
تدخل مع العساكر أحيانا في نقاشات عبثية تعكس حجم المشكلة المرورية، وهم أحد أضلاعها الرئيسية. ليس من الضروري أن يكون الإنسان محاطا بالدببة والقرود والنمور لكي يشعر أنه يعيش في الغابة، حرب البقاء في القاهرة أصعب بكثير من مواجهة وحوش البرية، خاصة في الأوقات التي يعم فيها الشوارع اللون البرتقالي المتقطع، اللون الذي ينذر بانهيار المستوى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved