التكنولوجيا والنمو وعدم المساواة.. تحديات العصر الرقمى

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الأربعاء 3 مارس 2021 - 8:53 م بتوقيت القاهرة

نشر معهد بروكينجز مقالا للكاتب Zia Qureshi تناول فيه أسباب عدم مساهمة التقدم التكنولوجى المتسارع، وخاصة مع أزمة كورونا، فى زيادة الإنتاج وتقليل فجوة عدم المساواة.. نعرض منه ما يلى.
يطلق على عصرنا الحالى عصر التقنيات الجديدة المذهلة، وربما يشار إلى عصرنا الحالى بعصر النهضة التكنولوجية. بعض السيناريوهات ترى أن العالم يسير تجاه حالة فريدة من التقدم التكنولوجى سيترتب عليه تفرد اقتصادى فى الإنتاجية والنمو. هذا الحماس مفهوم، فوتيرة ونطاق التقدم الذى أُحرز هائل، بدءا من أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية إلى المنصات الرقمية والروبوتات، والتطورات فى الذكاء الاصطناعى، والتعلم الآلى، والأنظمة السيبرانية الفيزيائية، وإنترنت الأشياء الذى عمل على إعادة تشكيل الأسواق وبيئات العمل.
كنتيجة لوباء كوفيد ــ 19 تزايدت سرعة التغيير التكنولوجى، ويمكن الإشارة إلى هذه الأزمة فى التاريخ على أنها «المسرع الرقمى العظيم» لما مثلته من انعطافة سريعة فى التحول الرقمى وما شكلته من حافز للمجالات المختلفة لزيادة الاستخدام التكنولوجى فى التعليم والتجارة.. إلخ. رقمنة النشاط الاقتصادى زاد بشكل كبير. والمستقبل يأتى بسرعة لم نتوقعها. وحتى مع تعافى الاقتصادات من الوباء، سيترك آثارا بعيدة المدى.
***
التكنولوجيا تحفز الإنتاج، والإنتاج يحفز النمو.. ولكن مع ازدهار التقنيات الرقمية، تباطأ الإنتاج بدلا من تسارعه. هذا تناقض عظيم فى عصرنا الحالى. قد أبهرتنا التقنيات الجديدة ولكنها لم تحقق العائد المتوقع من نمو الإنتاج الكلى. بدأ تباطؤ الإنتاج فى الاقتصادات المتقدمة فى ثمانينيات القرن الماضى، وفى العقد الماضى تباطأ الإنتاج فى الكثير من الاقتصادات الناشئة.. مع تباطؤ الإنتاج، ازداد التفاوت فى الدخول، وزاد عدم المساواة فى جميع الاقتصادات المتقدمة منذ ثمانينيات القرن الماضى، مع تركز الدخول فى فئات معينة، ولم تفلت الكثير من الاقتصادات الناشئة من هذا التفاوت.
ولكنه فى حين أن عدم المساواة فى الدخل آخذ فى الارتفاع داخل العديد من الدول فى العقود الأخيرة، فإن عدم المساواة بين الدول آخذ فى الانخفاض، وذلك بفضل صعود اقتصادات ناشئة ذات نمو سريع يعمل على تضييق فجوة الدخل مع الاقتصادات المتقدمة.. التغير التكنولوجى يطرح تحديات جديدة لهذا التقارب الاقتصادى.
اعتمد التقدم الاقتصادى فى الاقتصادات الناشئة على الاقتصادات كثيفة العمالة، ولكن هذه الميزة ستتناقص أهميتها مع تقدم أتمتة الأعمال، ما يعيق مسارات التنمية التقليدية. ستضيف جائحة كورونا إلى التحديات التى تواجه الاقتصادات الناشئة، بعرقلتها لسلسلة التوريد وظهور تأييد أقوى لاستعادة الاقتصادات المتقدمة لعمليات الإنتاج بداخلها.
الاقتصاد الأمريكى يعد مثالا على ذلك، التقدم التكنولوجى وتباطؤ الإنتاج وزيادة عدم المساواة. كانت الولايات المتحدة هى الرائدة عالميًا فى الثورة الرقمية، ومع ذلك تباطأ الإنتاج بشكل كبير منذ أوائل القرن الحادى والعشرين، حتى مع استمرار تقدم التقنيات فى العقدين التاليين، وزيادة أتمتة الإنتاج وتعقيدها.. عدم المساواة فى الدخل آخذ فى الارتفاع، تركزت الثروة فى أيدى 1% من ذوى الدخول المرتفعة، زادت الأعباء على الطبقة الوسطى، وظل الدخل الحقيقى منخفضا فترات طويلة، وازداد انعدام الأمن الوظيفى مع تصاعد المخاوف من غزو الروبوتات. هذا التفاوت فى الدخول وعدم المساواة سيزيد الأمر سوءا مع الاستياء الشعبى المتزايد والاستقطاب السياسى الموجود اليوم.
***
التغير التكنولوجى يحدث انتقالات صعبة. يخلق رابحين وخاسرين. ستلعب السياسات دورا حاسما فى تمكين الشركات والعاملين وإتاحة سبل الوصول إلى الفرص الجديدة وتعزيز قدرات التكيف مع التحديات الجديدة.. ولكن فى الواقع، تباطأت السياسات والمؤسسات فى التعامل مع تحديات التغير التكنولوجى. يرتبط تباطؤ نمو الإنتاج وتزايد عدم المساواة ارتباطًا وثيقًا بالطريقة التى تفاعلت بها التقنيات الجديدة مع السياسات السائدة والبيئة المؤسسية، فهناك علاقة قوية وترابط بين التكنولوجيا والسياسات والإنتاجية وتوزيع الإنتاج.
كيفية انتشار التكنولوجيا داخل الاقتصاد مهم لنمو الإنتاجية وتوزيع الدخل. ولكن حتى الآن، لم تنتشر فوائد الابتكارات الرقمية على نطاق واسع عبر الشركات وتم الاستيلاء عليها فى الغالب من قبل عدد صغير نسبيًا من الشركات الكبيرة. يعكس التباطؤ فى الإنتاجية، فى الأساس، تفاوتًا متزايدًا فى الإنتاجية بين الشركات، والذى يخلقه ضعف المنافسة الناتج عن الحواجز التى تعيق انتشار التقنيات الجديدة ويتسبب فى ارتفاع مستمر فى فجوات الإنتاجية والربحية بين الشركات.
التقنيات الجديدة تجعل الفائز يحصل على كل شىء. فالميزات يحصل عليها من يتحرك أولا ومن يمتلك البيانات الضخمة، لتخلق ما يمكن تسميته «شركات لامعة». هذه الشركات المهيمنة صعدت فى مجال الاقتصاد غير المادى ــ حيث تكون الأصول مثل البيانات والبرمجيات والملكية الفكرية ذات أهمية أكبر للنجاح الاقتصادى، وتعد شركات مثل آبل وجوجل وفايسبوك مثالا على ذلك.. الفشل فى وضع سياسات المنافسة أدى إلى تعزيز هذه القوى المدفوعة بالتكنولوجيا ما زاد تركيز السوق فى يدها.
العيوب فى سياسات براءة الاختراع عاقت ظهور ابتكارات جديدة أو الانتشار الواسع للمعرفة بخصوص التقنيات الجديدة. فسياسات براءة الاختراع، التى تم تصميمها منذ عدة عقود، كانت بطيئة فى التكيف مع ديناميكيات المعرفة فى العصر الرقمى. فى الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تركزت براءات الاختراع فى أيدى الشركات الضخمة إلى جانب الاستخدام الاستراتيجى لبراءة الاختراع من قبل المتحكمين فى الأسواق للحد من انتشار المعرفة.
فى حين شهدت أسواق المنتجات ارتفاعًا فى عدم المساواة بين الشركات، شهدت أسواق العمل ارتفاعًا فى عدم المساواة بين العمال. أدت الأتمتة والتقدم الرقمى إلى التركيز على طلب العمالة ذات المهارات العالية. شهدت أسواق العمل استقطابًا متزايدًا، مع انخفاض الطلب على العمالة ذات المهارات المتوسطة وارتفاع الطلب على العمالة ذات المهارات المرتفعة مثل المهنيين الفنيين والمديرين. وهذا لا يعنى أن العمالة ذات المهارة العالية سلمت، فمع تقدم الذكاء الاصطناعى، سيتم التخلى عن بعض المهارات المرتفعة.. ولكنها من الأرجح أن تكون على مستوى المهام وليست الوظيفة بأكملها كما الحال مع المهارات المتوسطة أو المنخفضة.
التعليم والتدريب يخسران السباق مع التكنولوجيا.. فمع تحول الطلب على المهارات، تأخر تعديل جانب العرض وتزويد العمال بالمهارات التى تتماشى مع التقنيات الجديدة وتدعم انتقالهم إلى مهام ووظائف جديدة. فعلى سبيل المثال، دولة متقدمة مثل الولايات المتحدة لا يحصل فيها ثلثا العمال على شهادة جامعية.. أدى النقص فى المهارات المعرفية والتقنية والإدارية الجديدة والعالية التى يتطلبها الاقتصاد الرقمى إلى إعاقة انتشار التكنولوجيا عبر الشركات ومن ثم تحقيق مكاسب إنتاجية أوسع. وأدى أيضا إلى اتساع الفروق فى الأجور مع زيادة الطلب على العمال المهرة وتقلص فرص العمل للعمال ذات المهارات المتوسطة أو المنخفضة. ولا يجب إغفال التفاوت فى الأجور بين الشركات مع اتساع فجوات الربح بين الشركات. لقد حصدت الشركات الأفضل أداءً أرباحا مهولة، تقاسمت جزءًا منها مع عمالها (لنرى توزيعا غير عادل للأجور أيضا داخل هذه الشركات)، وازداد عدم المساواة فى الأجور بين الشركات بشكل كبير فى الصناعات التى تستثمر بكثافة فى التقنيات الرقمية.
***
مع تعافى الاقتصادات من الأزمة الحالية، يمكن أن تؤدى التطورات فى التحول الرقمى إلى تحفيز الإنتاجية وتعزيز النمو الاقتصادى. لكن يمكنها أيضًا تعزيز ديناميكيات السوق التى أعاقت فى السنوات الأخيرة نمو الإنتاجية وزادت من عدم المساواة الاقتصادية. قد يؤدى الوباء إلى زيادة تركيز الأسواق؛ حيث يعزز نمط الطلب عبر الإنترنت من المزايا الموجودة مسبقًا للشركات الكبيرة المتقدمة تقنيًا وذات المكانة الجيدة، مع القضاء على الشركات الصغيرة الأقل كثافة فى التشغيل الآلى والتى تفتقر إلى القدرة على الوصول إلى الائتمان والسيولة اللازمتين للبقاء على قيد الحياة. بينما تكافح الشركات الصغيرة، تعمل شركات التكنولوجيا العملاقة على زيادة حصصها فى السوق.
ومع ذلك، فإن هذه النتائج ليست حتمية. مع سياسات أكثر استجابة، يمكن تحقيق نتائج أفضل. يمكن أن تكون التقنيات الرقمية مصدرًا لما يصل إلى ثلثين ــ أو ربما أكثر ــ من نمو الإنتاجية المحتمل على مدى العقد المقبل. تختلف الاحتياجات والأولويات بالطبع لا سيما بين الاقتصادات المتقدمة والناشئة. ولكن، بشكل عام، هناك خمسة مجالات تحتاج إلى مزيد من الاهتمام من صانعى السياسات الوطنية.
أولا، تجديد سياسة المنافسة بما يتناسب مع العصر الرقمى لضمان استمرار الأسواق فى توفير ساحة مفتوحة ومتساوية للشركات. وتعزيز مكافحة الاحتكار، مدعومًا بقوانين وإرشادات محدثة بشأن عمليات الاندماج والاستحواذ.
ثانيًا، فى اقتصاد قائم على المعرفة، يجب تحسين بيئة الابتكار لتحفز المعرفة الجديدة والتقدم التكنولوجى ونشرهم على نطاق واسع. يجب إصلاح أنظمة براءات الاختراع ومعالجة مشاكل التصيد وإطلاق العنان للمنافسة التى تعد المحرك الأساسى للانتشار والابتكار التكنولوجى.
ثالثًا، تعزيز البنية التحتية الرقمية لتوسيع الوصول إلى الفرص الجديدة. وهذا يتطلب زيادة الاستثمار وكذلك الأطر لتشجيع المزيد من الاستثمار الخاص لتحسين الوصول الرقمى.
رابعًا، تجديد برامج التعليم والتدريب للتأكيد على اكتساب المهارات التى تتواءم مع التقنيات الجديدة. سيتطلب ذلك الابتكار فى محتوى برامج التعليم والتدريب وتقديمها وتمويلها، بما فى ذلك النماذج الجديدة للشراكات بين القطاعين العام والخاص.
خامسا، تعزيز أنظمة الحماية الاجتماعية وإصلاحها لإعادة مواءمتها مع الاقتصاد المتغير وطبيعة العمل. لقد كشف الوباء عن نقاط ضعف فى هذه الأنظمة. يجب أن تدعم برامج التأمين ضد البطالة العمال بشكل أفضل فى التكيف مع التغيير، وإعادة التدريب، والانتقال إلى وظائف جديدة.
***
يحمل عصر الذكاء الاصطناعى وعودا بمستقبل مزدهر للجميع. لكنها تتطلب سياسات أكثر ذكاء لتحقيق هذه الوعود. الإصلاح الاقتصادى الكبير سيجلب تعقيدات سياسية، وتزيد الانقسامات السياسية العميقة اليوم من التحديات. ومن أجل تحقيق الزيادة فى الإنتاجية والنمو الاقتصادى ومعالجة عدم المساواة المتزايد، يجب أن تكون السياسات أكثر استجابة للتغيير.. فالتكنولوجيا تعيد تشكيل الأسواق.

إعداد: ابتهال أحمد عبدالغنى
النص الأصلى

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved