حتى لا نخشى الشذوذ الفكري

محمد علاء عبد المنعم
محمد علاء عبد المنعم

آخر تحديث: الخميس 3 مارس 2022 - 7:55 م بتوقيت القاهرة

الشذوذ هو الخروج عن المألوف أو الانحراف عن الوضع الطبيعى أو مخالفة القاعدة العامة، وقد يشير مصطلح الشذوذ إلى تشوهات فى الخلقة، وغالبا لا يُستخدم المصطلح للإشارة إلى ميزة يتفرد بها شخص أو كيان ما، كالتميز الرياضى أو الفكرى أو العلمى.

وقد استخدم عباس العقاد مصطلح «العبقرية» للتعبير عن هذا النوع الأخير من التميز فى عبقرياته الشهيرة، مثل عبقرية محمد وعبقرية المسيح وعبقرية عمر وعبقرية خالد، إلخ. واستخدم العقاد مصطلح العبقرية للتعبير عن خصائص العظمة من مهارات وقدرات يتفرد بها أشخاص بعينهم، ويبقى مصطلح الشذوذ مرتبطا بالتعبير عن التشوه أو الانحراف عن الصواب. 

• • •

فى الولايات المتحدة كانت المثلية الجنسية حتى أوائل السبعينيات من القرن العشرين تعرف بأنها انحراف جنسى sexual deviance، ويتم التعامل معها ضمن علم الأمراض pathology، إلى أن تم حذفها من قوائم الأمراض، وانتصرت فى الدوائر العلمية النظرة إلى المثلية باعتبارها سلوكا طبيعيا وليس مرضيا، وانسحبت هذه النظرة إلى المنظمات الدولية المتخصصة فى المجالات الصحية، وانتقل الخلاف حول المثلية فى الغرب من دوائر الأبحاث العلمية إلى المنافسات الانتخابية والمساجلات الدينية، وذهبت المجتمعات الغربية بوجه عام إلى قبول هذا الاختلاف مع التمايز فى التفاصيل، مثل الخلاف حول موضوعات من قبيل زواج الشواذ والتبنى والخدمة فى الجيش، إلى أن بدأ يظهر نوع من التقارب والقبول حول هذه القضايا، وعلى الجانب الآخر، يثير مجرد عرض الفكرة فى عمل فنى سجالات عدة فى المجتمع المصرى، لكنها سرعان ما تخبو مع الأيام. 

ليس هدفى هنا هو الدخول فى نقاش حول هذه النقطة تحديدا، وإنما يسترعى انتباهى وجود عدد من الخيوط الناظمة لعدد من محفزات الصدمة التى انتابت بعض فئات المجتمع المصرى فى الفترة الأخيرة، وتمثلت هذه المحفزات فى شكل أفلام وبرامج تليفزيونية وتصريحات إعلامية اعتبرها البعض انعكاسا لسعى ممنهج لتغيير الثقافة والهوية المصرية لقبول أفكار معينة هى من قبيل الشاذ أو غير المألوف فى مجتمعاتنا. 

ولا أميل إلى فرز الأفكار والمواقف باعتبارها شاذة أو سوية، ولا أميل كذلك إلى نظريات المؤامرة، ولكنى أرى أن المشاحنات والصدامات الأخيرة قد أظهرت عددا من الملاحظات التى تستحق المناقشة. 

أولا: تمثل محفزات الصدمة التى شهدتها الساحة المصرية أخيرا انعكاسا لتراجع قوة مصر الناعمة، ويمكن تعريف القوة الناعمة بأنها القدرة على التأثير فى الآخرين من خلال الإقناع ودون الحاجة لاستخدام القوة المسلحة، وارتبطت القوة الناعمة لمصر تاريخيا بالإنتاج الفكرى والفنى والأدبى والعلمى، وهو ما أهلها للزعامة الإقليمية والقدرة على تشكيل الوعى فى محيطها الإقليمى العربى والأفريقى والإسلامى. 

ولكن ما نراه مؤخرا هو تراجع هذا الدور، وتراجع الإنتاج المعرفى المؤثر، ويبدو هذا التراجع واضحا بالنظر إلى تمويل وإنتاج عديد من الأعمال التى ثارت حولها النقاشات مؤخرا، سواء كانت أفلاما سينمائية أو مسلسلات أو برامج تليفزيونية، من دول لم يكن بعضها فى مركز التأثير الإقليمى حتى ثمانينيات القرن العشرين، ولكنها اكتسبت أهميتها فى الفترة الأخيرة، ومنها دول عربية وغير عربية.

ثانيا: أبرزت المواقف من الإبداع اهتراء المواقف المبدئية لدى شريحة من النخب المصرية، وهو ما يمكن اعتباره أحد أسباب تراجع قوة مصر الناعمة، حيث نجد فئة من أنصار حرية الإبداع يعترضون على فيلم سينمائى يعبر عن الفقر الذى تعيشه شريحة معتبرة من المواطنات والمواطنين المصريين باعتباره لا يعبر عن الواقع، بينما ترى نفس هذه الفئة أن الشذوذ الجنسى واقع من الممكن، بل والمستحب، التعبير عنه، واللافت للنظر هنا ليس المواقف من قضايا الفقر والشذوذ الجنسى بقدر ازدواجية المعايير.

ثالثا: عكس تمايز المواقف تجاه عدد من القضايا التى برزت على الساحة أخيرا فرزا على أساس طبقى، مع ظهور نعرة وطنية بدت لى، وربما لكثيرين غيرى، مصطنعة. تبرز الطبقية فى تقاطع خطوط القبول والرفض لقضايا معينة مع خطوط الفصل الطبقى بين شرائح المجتمع، فالطبقات الأكثر تعليما وتأثيرا وثراءً أقرب لقبول عرض حالات المثلية الجنسية ومعاداة الأديان، بينما نجد شريحة منها على الأقل رافضة حتى للتعبير عن واقع الفقر الذى لا تخفيه البيانات الرسمية، ورغم أن الفئات المتعلمة والأعلى دخلا فى غالبية المجتمعات هى الأقرب لتقبل الأمور الخلافية، بما فيها المثلية الجنسية، إلا أن ما ظهر من رفض الإبداع وإنكار وجود واقع الفقر فى مجتمعاتنا، إضافة إلى لغة التعالى على المخالفين أو المختلفين، يعكس غياب القدر الصحى من التواصل بين فئات المجتمع المختلفة. 

رابعا: دخلت على خط المناقشات والسجالات قوى اليمين المتطرف برافديه الدينى والعلمانى، وهو ما دفع إلى تركيز المشاحنات فى معسكرين رئيسيين، وعضدت القوى المنتجة والممولة التشاحن بين الطرفين من خلال إعطاء مساحات لم تسمح للأصوات الوسطية بالتواجد على الساحة، وعزز من هذا التوجه التخوفات الأمنية، من بعض الأصوات، وهى تخوفات مشروعة ومفهومة. 

خامسا: مقارنة بالمواجهات الانتخابية فى الدول الديمقراطية، بدت المساجلات فى الواقع المصرى سطحية، فقد طغى التركيز على المشاهد أو العبارات الإباحية، بينما توارت مناقشة قضايا من قبيل الحرية الفردية ودور الدولة والمواطنة والهوية.. إلخ. 

• • • 

لا يمكن التعامل بالمنع مع ما يفتح أبواب الشك فى أهدافه ومصادره، فالمنع غير وارد وغير مجدٍ فى عصر لا يمكن فيه تقييد حركة الأفكار، بصرف النظر عن جودتها أو رداءتها، خاصة مع تراجع ما ينتجه المجتمع المصرى من إبداع فكرى وأدبى مقارنة بما تنتجه دول حولنا حتى وإن استخدموا فى هذا الإنتاج مفكرين وفنانين وإعلاميين مصريين. 

أرى أن هذه المرحلة تتطلب إعادة تفكير فيما ننتجه فكريا وأدبيا وعلميا، ومساحات الإبداع التى تسمح باستعادة التأثير المصرى فى محيطها وصياغة مواقفها ووعيها بالقضايا المطروحة على الساحة، وكذلك موقفها ووعيها بقضايا تاريخها ودورها الإقليمى.

وليس من جديد فى انفتاح مصر على العالم والتفاعل الإيجابى معه، ومحور القدرة على هذا التفاعل الإيجابى هو فتح مساحات لحرية التعبير والنقاش وصياغة المواقف الفكرية والأخلاقية حول القضايا المهمة على الساحة، وهذه المساحات من حرية العمل والتعبير، خاصة بين أوساط الشباب، هى الضامن للقدرة على التفاعل الإيجابى مع المحيط المصرى والتأثير فيه، والشباب الذى يقرأ ويناقش ابن خلدون ونجيب محفوظ والعقاد وبرنارد شو وناعوم تشومسكى وغيرهم كثير، والذى يتفاعل فى إطار مؤسسات العمل السياسى والشبابى والجامعى الرسمى الذى ترعاه الدولة، هو شباب عصى على قوى التطرف وقادر على إعمال مبادئ الاستقلالية والمنطق والعقلانية فى التعامل مع جميع الأفكار.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved