كتاب «الفيلق المصري».. عذابات الفلاحين بسياط بريطانية

طلعت إسماعيل
طلعت إسماعيل

آخر تحديث: الجمعة 3 مارس 2023 - 7:10 م بتوقيت القاهرة

ــ أبو الغار ينبش فى التاريخ المجهول لجريمة اختطاف نصف مليون مصرى فى أحدث إصدارات دار الشروق 

ــ الكتاب يروى محنة مئات الآلاف من أبناء الدلتا والصعيد جندوا للعمل بالسخرة لصالح الجيش البريطانى

ــ أكثر من 50 ألف مصرى ماتوا تحت شمس الصحارى الحارقة وثلوج البلاد الباردة.. والحكومة المصرية تدفع التكاليف

ــ الخطف والقتل والتعذيب جرائم لا تسقط بالتقادم.. والتاج البريطانى مطالب بالاعتذار والتعويض

ــ خطابات ضابط بريطانى تكشف العنصرية الإنجليزية ونظرة التعالى والعنجهية إلى المصريين عموما والفلاحين خصوصا

ــ «الفيلق المصرى» يحفل بقصص وحكايات تنتظر تفاعل السينمائيين وكتاب الدراما لتسجيل جانب مهم من تاريخنا الوطنى

«الفيلق المصرى.. جريمة اختطاف نصف مليون مصرى»، ليس مجرد كتاب يمكن أن تطالعه، ثم تطوى صفحاته كيفما اتفق، فهو سطور تقلب علينا مواجع من سنوات العذاب والظلم والإهانة التى تعرض أجدادنا المصريون لها على يد المحتل البريطانى خلال سنوات الحرب العالمية الأولى (1914 ــ 1918) حيث جرى تكبيل مئات الألوف من الفلاحين بالقيود، قبل أن يرحلوا إلى جبهات القتال البعيدة فى فلسطين والشام وأوروبا للعمل لصالح الجيش البريطانى فى ظروف أقل ما يقال عنها أنها قطعة من الجحيم.

الكتاب وهو أحدث إصدارات دار الشروق للدكتور محمد أبو الغار، يروى فيه الأستاذ بكلية طب قصر العينى، والكاتب والباحث الشهير، الغنى عن كل تعريف، محنة مئات الألوف من الفلاحين المصريين الذين جلبوا من قرى الصعيد النائية، وكفور الدلتا الوديعة، للعمل بعقود إذعان تحت تهديد الضباط البريطانيين فى بناء السكك الحديدية وتحميل وتفريغ السفن، مقابل قروش زهيدة أحيانا، وبلا مقابل فى غالبية الأحيان، سوى بضع لقيمات تكفى «النفر» للبقاء على قيد الحياة لتنفيذ الأعمال الشاقة شبه المؤبدة.

فى ثمانية فصول ومقدمة وخاتمة يتتبع الدكتور أبو الغار رحلة 530 ألف مصرى فى التقديرات الغربية، ونحو مليون فلاح فى تقديرات المؤرخين المصريين، قادهم الجيش البريطانى إلى فلسطين وسوريا ولبنان والعراق وغرب تركيا واليونان وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا، كشفا من خلال مذكرات وأبحاث بريطانية ومصرية عن جوانب خفية ظلت مجهولة لسنوات، فى جهد علمى تقاعست، للأسف، عن القيام به جامعات ومؤسسات بحثية منوط بها تتبع تاريخ المصريين فى الماضى البعيد والقريب.

لكن كيف تم تكوين الفيلق المصرى؟ يقول الدكتور أبو الغار إنه «فى أثناء التطورات العنيفة للحرب العالمية الأولى فى أوروبا كان هناك احتياج كبير للأيدى العاملة، واستطاعت فرنسا جلب مئات الآلاف من مستعمراتها فى أفريقيا والشرق الأقصى، وكذلك من الصين، واتجهت بريطانيا للتفكير فى مصر».

قاد هذا التفكير لورد بلفور وزير الخارجية البريطانية إلى إرسال تلغراف إلى المندوب السامى فى مصر لطلب تجهيز قوة مدنية من الفلاحين للقيام بالأعمال المساعدة للجيش. وينقل أبو الغار عن كابل أندرسون الذى قدم بحثا وافيا عن الفيلق المصرى، أن أكثر من نصف مليون مصرى معظمهم من الريف، أخذوا بالقوة ليعملوا مع الجيش البريطانى».

 

كان تجنيد عمال «الفيلق يتم أساسا فى الريف وبنسبة أكبر فى الصعيد، وتفادى الإنجليز تجنيد المصريين بالعنف من المدن لصعوبة ذلك، ولأن احتمالات استخدام العنف من الجانبين ستكون كبيرة، بالإضافة إلى أن سلطة القيادات الشرطية والعمد وشيوخ الغفر فى الريف أكثر بكثير من قوة وسلطة الشرطة فى المدن ونفوذها على المواطنين».

وهكذا كان العمد والمشايخ مسخرين لجلب الأنفار التى ستذهب إلى «السلطة» مجبرة للعمل بالسخرة لصالح المجهود الحربى البريطانى، وينقل الدكتور أبو الغار عن شاهد عيان لعمليات اختطاف الفلاحين الفقراء من القرى قائلا: «وضع نظام للتطوع ظهر عدم كفايته، وصدرت الأوامر بأخذ العمال من الحقول بالإكراه، والطريقة هى أن يدخل رجال الحكومة القرية وينتظروا رجوع الفلاحين إلى منازلهم فى الغروب فيحيطوا بهم وينتقوا خيرهم للخدمة، فإذا رفض أحدهم هذا التطوع الإجبارى جُلد حتى الإقرار بالقبول». وعلى هذا النحو ساقوا صبيانا من سن أربعة عشر عاما وشيوخا فى السبعين، وكانت الجموع المريضة المنهكة تساق لتأدية الأعمال الحربية والكرباج كفيل بتسخيرهم، بعد أن أصبح الجلد من الأعمال اليومية. 

وإذا كانت السلطات البريطانية، كما جاء فى الكتاب، قد قامت بكل أنواع الضغط الممكن لتجنيد المصريين فى الفليق، باستخدام قوة رهيبة غير آدمية وتتنافى مع حقوق الإنسان، فإن موقف الحكومة المصرية برئاسة حسين رشدى باشا كان مزريا، «وكانت قراراته تثير الغثيان، فهو لا يؤيد إصدار قرارات وزارية بتجنيد الفلاحين فى الفيلق، ولا بإرسال المجندين كعمال فى الفيلق واعتبار المدة التى يقضونها هى فترة الخدمة الإجبارية، وإنما يفعل ما هو أسوأ من ذلك بتجنيد الشرطة المصرية بالكامل بدءا من مديرى المديريات، ثم مأمورى المراكز والعمد لاستخدام العنف والقوة فى إرسال الفلاحين وذلك بدون إصدار قانون لهذا العمل».

والأكثر سوءا أن حكومة رشدى باشا تحملت تكاليف هذا الفيلق وتنازلت عن 3 ملايين جنيه إسترلينى كانت قد أقرضتها للحكومة البريطانية وضعت «على النوتة» أو ضمن ما عرف وقتها بالحساب المعلق الذى تم الاتفاق ألا يعرض على مجلس الوزراء حتى لا يتم إحراجهم أمام الشعب بأنهم وافقوا على أن تقوم بالصرف على الجيش البريطانى، وبالتالى فإن مصاريف الجيش البريطانى الذى عذب وأجبر المصريين على العمل بالسخرة، دفعه أهل هؤلاء المساكين من الشعب المصرى دافع الضرائب!

وفى تقديرى أن أهم ما جاء فى كتاب «الفيلق المصرى» هو الخطابات التى كتبها الضابط الإنجليزى الذى كان يقود الفيلق المصرى عمليا إلى صديقه فى لندن والتى يروى فيها الملازم فينابلز جانبا مما حدث للجنود المصريين فى سيناء وفلسطين والذين كانوا يشاركون فى مد خط للسكك الحديدية فى فلسطين تحت وابل من نيران القوات التركية والألمانية والنمساوية.

 خطابات وأوراق الملازم فينابلز التى كانت مودعة فى مخازن المتحف الحربى البريطانى الإمبريالى، حصل عليها الدكتور أبو الغار بعد اتصاله بإدارة المتحف طالبا الاطلاع عليها فتم تحديد موعد فذهب إلى لندن وقام بتصوير الوثائق فى غرفة الباحثين بالمتحف، مشيرا إلى أن الأمر لم يتطلب أكثر من طلب، ولم يتم حتى سؤاله عن جواز السفر للتحقق من شخصيته، ويقول إن تلك التجربة «توضح أن الإجراءات الأمنية المبالغ فيها فى مصر غير مفيدة بل ضارة بالبحث العلمى».

وبالعودة لخطابات الملازم فينابلز الذى كان يقود فى البداية 800 فلاح مصرى ارتفع عددهم بعد ذلك إلى 1200 عامل، نجدها حافلة بما يشبه اليوميات التى تسجل جانبا مما تعرض له العمال المصريون من مواقف وأحداث، وفى خطاب لصديقه كينيون مرسل من دير البلح بفلسطين فى 12 سبتمبر 1914، يقول الضابط البريطانى «لقد انتهينا من إنشاء ستة كيلومترات من السكة الحديد، وغدا سوف أنتقل مع الفيلق إلى نقطة أخرى تكون أكثر مناسبة للعمل. حاليا الجيش البريطانى يواجه الجيش التركى، وكلاهما فى الخنادق فى الجزء الشمالى من وادى غزة. خط السكة الحديد الذى يتم إنشاؤه بواسطة الفلاحين المصريين طوله 300 كيلومتر، ويمتد من القنطرة شرق قناة السويس إلى فلسطين».

وفى موضع آخر يقول «بدأنا تحضير المكان الذى ستوضع فيه قضبان القطار، وكانت الأرض صخرية والقطع والتحضير فيها صعب، وبعد بضعة أيام بدأ المصريون تفهم فكرة وطريقة العمل. كل صباح كنت أحدد طريقة ونظام العمل. وقمت بتحديد عدد الأمتار المكعبة من التربة التى سوف يقطعها ويحملها العمال، وبالتالى الكمية المطلوبة من كل عامل (.....) كان بعض العمال يفضلون العمل فى المعسكر والبعض يختفى أو يمرض».

ويذكر فينابلز أن النظام الصارم للعمل جعل العمال المصريين «يعملون بقوة مثل الزنوج الأمريكيين»، وعلى الرغم من أن هذا الضابط مقارنة بزملائه من الضباط الإنجليز، يعتبر غير عنيف، فهو مثقف ويجيد عددا من اللغات، وكان يعامل الفلاحين المصريين بطريقة إنسانية جيدة، إلا أن خطاباته تحمل قدرا كبيرا من العنصرية، ويقول فى أحدها «المصريون يغدرون بك ولا يمكن الثقة بهم»، ويبرهن على ذلك بقوله لصديقه «فى يوم حضر الباش غفير ليخبرنى أن اثنين من الرجال كانا يسرقان الأكل فى الظلام، وتم عقابهما، ومن يومها وكمية الأكل أصبحت منضبطة، وقد عاقب الباش غفير السارقين، وكان العقاب الذى فرضه 26 جلدة لكل متهم. هل ما زلت متشككا من فكرة أن المصريين ليسوا أهلا للثقة؟». 

فينابلز ربما عكس معاناة الفيلق المصرى فى فلسطين ينقل أبو الغار عن الدكتور عصمت سيف الدولة المحامى والمفكر القومى العروبى الراحل ما كتبه فى مذكراته ما تعرض له أبناء الصعيد فى فرنسا نقلا بدوره عن الشاب يونس ابن قرية الهمامية مركز البدارى فى أسيوط الذى سافر إلى بلدة «كالى» الفرنسية فى مركب 45 يوما ضمن 500 من الصعايدة الذين رأوا الأهوال ومات بعضهم من العمل الشاق فى ظروف البرد القارس. والمختلف فى هذه الرواية أن هؤلاء الصعايدة وعلى عكس زملائهم فى فلسطين ثاروا وأضربوا عن العمل احتجاجا على سوء المعاملة فتم ضربهم بالرصاص ويونس الوحيد الذى نجا من تلك الواقعة قبل أن يعود إلى بلده ليروى الحكاية.

الأوضاع المزرية والمعاملة الفظة القاسية التى تعرض لها عمال الفيلق كانت سببا فى اندلاع ثورة الفلاحين المصريين فى الريف بدأت عام 1918 وانضمت إلى ثورة 1919، «وكانت الأضخم والأقوى والأصعب التى حاول الإنجليز قهرها بأقصى أنواع العنف الذى وصل إلى ضرب المدنيين بالطائرات».

وفى الختام فإن جرائم الاحتلال البريطانى بحق المصريين عموما والفلاحين خصوصا لا تسقط بالتقادم، فالتاج البريطانى مطالب باعتذار للمصريين عن العنصرية البغيضة، والقهر الذى تعرض له مئات ألوف الفلاحين، كما يجب أن تتحمل الحكومة البريطانية تعويض أحفاد هؤلاء، وهو ما شدد عليه الدكتور أبو الغار قبل أن ينهى دراسته القيمة التى كشفت لنا جانبا ظل مجهولا من تاريخنا الوطنى، وهو جانب ملىء بالقصص والحكايات التى تنتظر تفاعل السينمائيين وكتاب الدراما معها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved